يتحدث كثيرون اليوم وفي مناطق مختلفة من هذا العالم عن انزياح قيمي وأخلاقي، ويتململ من هم في عقدهم الخامس أو السادس وما فوق بأن العالم قد تغيّر كلياً إلى الأسوأ وأن ما درجوا على احترامه وتقديره لم يعد موضع احترام وتقدير مما يخلق ضبابية في الرؤية وعدم القدرة على الإبداع والمساهمة الحقيقية لإصلاح الأحوال. ولأن المشكلة صعبة ومعقدة من الأسهل أن يعبّر الإنسان عن عجزه والعذر واضح ومقبول وهو أن المشكلة أكبر من الجميع وأن لا أحد قادر أن يقف في وجه هذا التحول التاريخي الذي يبدو شاملاً وعاصفاً. ولكنني قررت اليوم أن أتوقف عند أحد الأسباب التي قد تبدو بسيطة ولكنها هامة من منطلق أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام.
في نظرة بسيطة ومتأنية نشعر أن المتغيرات التي طرأت على العالم منذ بداية هذا القرن وبالتحديد منذ أحداث الحادي عشر من أيلول ومن ثم احتلال أفغانستان واحتلال العراق افتقرت إلى القيادة الحكيمة أولاً وإلى الجرأة من قبل الآخرين للتساؤل الجذري والمضني عن المنطق الذي قاد إلى هذه التحركات ومبرراته ثانياً. وهذان العاملان أي افتقار القيادة للحكمة والحرص على الشأن العام وافتقار الآخرين للجرأة على فرض الأسئلة الجوهرية قادا إلى نوع من الاستسلام لمجريات الأحداث مما سمح للطبقة المتحكمة بزمام الأمور أن تخطّ وتنفذ السياسات التي ترتئيها دون مساءلة أو مقاومة من أحد. والكارثي في هذا الموضوع وفي جوهره هو أن الطبقة الحاكمة بمعظمها في البلدان وصاحبة القرار بهذه الأحداث العالمية لم تكن قلقة على ما سينجم عن هذه التحركات في بلدها أو في العالم بل كانت مهتمة باستكمال ولايتها أو الفوز بولاية حكم جديدة وفعل كل ما هو مطلوب من أجل ذلك.
أي أن العالم افتقر في العقود الماضية إلى قادة كرّسوا أنفسهم قولاً وفعلاً للشأن العام بغض النظر عن المصير الشخصي وبغض النظر عن الثمن الذي قد يدفعونه نتيجة مواقفهم، بل سخّروا مواقعهم وقراراتهم من أجل الوصول إلى سلطة أكبر أو استمرارهم في مواقعهم. وعلى الطرف الآخر شاطرتهم الأكثرية جبناً غير مسبوق وصمتاً عن قول الحق والحقيقة إما خشية عقاب مهني أو خشية خسارة شخصية لمركز أو وظيفة أو حتى مميزات؛ فسار المركب في طريق مظلم تحصد أجيال اليوم نتائجه حروباً وهجرة وأحداثاً عبثية تكاد تعصف بمرتكزات الحياة التي يحلم بها الشباب والتي كانت في العقود الخالية حقاً بدهياً لهم.
فإذا أخذنا على سبيل المثال لا الحصر أفغانستان وراجعنا مراجعة سريعة تصريحات وأقوال القادة الغربيين في حينها نجد أن توني بلير رئيس وزراء بريطانيا حينها يخاطب الشعب الأفغاني في عام 2001 بالقول: " بفضل حلفائنا العسكريين والمقاتلين الأفغان الشجعان فإن نظام الطالبان يقترب من نهايته"، وفي عام 2006 يقول الرئيس جورج دبليو بوش : "أيام طالبان انتهت" ويقول توني بلير في العام نفسه: "نعم الطالبان لديهم وقت ولكن لعبة الانتظار لن تنجح"، وبين عام 2001 و2006 قامت الولايات المتحدة ومعها حلفاؤها الغربيون بغزو العراق في العام 2003 بناء على أكاذيب وأوهام تم افتراؤها لأسباب لا علاقة لها بمصلحة العراق والشعب العراقي بل لها كل العلاقة بالبقاء في الحكم لمن قاموا بهذا الغزو ومراكمة أسباب القوة والثروة لديهم دون أي اهتمام بحياة جنودهم من جهة أو بحياة العراقيين من جهة أخرى .
أي أن الأحداث المشار إليها التي شهدناها ناجمة في أساسها عن انحدار قيمي لمعنى القيادة وغياب الوازع الأخلاقي والإغراق في استخدام السلطة لمكاسب ومراهنات من جهة، وعن درجة من الجبن والخوف لدى الآخرين الذين سكتوا وصمتوا عن قول الحقيقة من جهة أخرى خوفاً على مكاسبهم أو مناصبهم أو قوت يومهم وهؤلاء ينطبق عليهم قول الإمام علي كرم الله وجهه "الساكت عن الحق شيطان أخرس".
قد تبدو الفكرة بسيطة ولا تستحق أن نوليها كل هذا الاهتمام الذي أشير إليه هنا في هذا المقال ولكنني اعتقد أنها غايةٌ في الأهمية لعدة أسباب: أولاً لأن الإنسان وقراره، وخاصة في مواقع هامة يؤثّر على حياة ملايين البشر، هو أصل الخير أو أصل المشكلة، وأنه مهما ارتقت العلوم التقنية ومهما أفرزت الحداثة من مخترعات جديدة يبقى الضمير الإنساني هو مبتدأ الفعل ومنتهاه. وثانياً لأن الحياة دائماً احتوت على نسبة صغيرة من المخربين والأشرار ولكنّ هؤلاء لم يكونوا يوماً قادرين على الوصول إلى أهدافهم لولا صمت الغالبية أو خوفها وجبنها وعدم حراكها لإعادة الأمور إلى مسارها الصحيح.
من هنا يأتي تركيز الغرب في العقود الأخيرة على الإعلام وإغراق القراء والمشاهدين والمستمعين بوجهات نظر تدعم التحركات التي يبغون القيام بها أو التي شرعوا في تنفيذها لتكوين رأي عام مساند لما يريدون قبل وخلال وبعد الحدث وهم يعلمون أنهم يمتلكون من هذه الوسائل ما يصل إلى أذهان وعقول وقلوب الناس في كل مكان في هذا العالم وأنهم الوحيدون الذين يمتلكون هذه الآلية الفعّالة والمكلفة، وفي الوقت ذاته خصصوا الميزانيات السخيّة أيضاً لمراكز الأبحاث التي تروّج للفكر السياسي وللتوجهات والاستراتيجيات القائمة والمستقبلية وأحدثوا الترابط والتكامل بين هذه المراكز وبين آليات الضخّ والنشر والتوزيع الإعلامي للسيطرة على العقول والقلوب والأحكام وهي في طور التشكّل.
ومن ناحية أخرى فقد مارسوا أقسى درجات العنف مع الأصوات الحيّة الجريئة فحرموها من سبل عيشها أو ضيّقوا عليها وعلى أُسرِها بطريقة ترعب من تسوّل له
نفسه باتخاذ مثل هذه الخطوة في مواجهتهم، ونعلم جميعاً ماذا فعل العدو الصهيوني بأي صوت جريء تجرأ على رفع الصوت والعمل والتضحية في سبيل مقاومته. وما قام به هذا الاحتلال مؤخراً من جرائم بحق الأسرى الذين حرّروا أنفسهم يهدف أولاً وقبل كل شيء إلى ترويع بقية الأسرى والأهل من إبداء أي نوع من التحدي لسلطات الاحتلال وقوانينه وإجراءاته وإطباق الصمت ودفع الآخرين إلى الهلع والجبن من أي حراك قد يودي بهم إلى ذات المصير. وفي كثير من الأحيان عمدت هذه القوى إلى تصفية المناضلين القدوة في منطقتنا أو في أميركا اللاتينية أو في أي مكان في العالم لأنهم يشكلون خطراً ليس فقط بسبب ما يمكن لهم أن يغيروه خلال حياتهم ولكن بسبب المثال والقدوة التي يقدمونها للأجيال وهذا هو الأخطر بالنسبة لمنظومة الحكم والمال في الغرب.
واليوم وفي العامين الأخيرين تمكنت هذه المنظومات الحاكمة من إحداث شبه شلل في العالم بسبب الخوف من الحركة والخوف من السفر والخوف من اللقاء والخوف من تقبيل الأولاد والأحفاد والخوف من أي شيء يبرهن على أننا احياء وسعداء ومنتجون وقادرون على أن نعيش إنسانيتنا بحرية وجرأة وتوق دائماً لما هو أفضل ولما هو أرقى في حياة البشر وأكثر تطوراً وإنسانية.
ومن هنا نكتشف بما يشبه اليقين أن الجبن عن إعلاء كلمة الحق رغم تفهم الأسباب التي تقود إلى هذا الجبن هو أحد العوامل الجوهرية التي أوصلت عالمنا إلى ما هو عليه اليوم من إحباط ويأس وفقدان الأمل في تغييرات حقيقية مستدامة تعيد للإنسان إنسانيته وللمواقع العامة الحرص على الشأن العام قبل الخاص وللمتلقين الجرأة على الحكم وقول كلمة الحق مهما كلف الثمن.
في زمن أصبحت الدول العميقة هي المتحكمة بزمام الأمور وتكديس الثروات، والبقاء في السلطة هو المعيار، مع تشكيل تحالفات نووية في المحيطات لتقليص دور دولة ما، والوقوف في وجه صعود دولة الصين يصبح معيار الحكم الرشيد الذي يتغنون به في محاضراتهم وأبحاثهم بعيداً كل البعد عن الواقع، وتصبح مصالح وأمن وسعادة الشعوب كرات تتقاذفها هواجس الانتخابات القادمة والبقاء لدورة أخرى أو مراكمة ثروات الأثرياء أصلاً.
يقول الأوروبيون إن نموذج أفغانستان قد شكّل جرس إنذار بالنسبة لهم وأنه ما بعد أفغانستان لن يكون كما قبلها وأن التفكير والنقاش جارٍ لتغيير الأسلوب ومنهاج العمل في مناطق أخرى من العالم وفي طليعتها الشرق الأوسط.
لن ننتظر لنرى، بل يجب أن نعمل ونرى لأن فهمنا للعالم وعملنا لمعالجة الأسباب التي أوصلته إلى هنا هو الضمانة الأكيدة لمستقبل أفضل.