في ملف المفاوضات حول الحدود البحرية، لبنان هو «المحشور» لا إسرائيل. فهو أوقف التفاوض «الخَسّير» وفق إطار 860 كلم2، لكنه لم يُقدم على أي إجراء يثبِّت حقَّه بالإطار الموسَّع إلى 2290 كلم2. وهذا التردّد ستكون تداعياته خطرة جداً. فلبنان على وشك أن يخسر «العصفور الذي في اليد»، ولا يربح «العصافير التي على الشجرة»، فيما إسرائيل تصطاد العصافير كلها!
مفاوضات لبنان مع إسرائيل حول الحدود البحرية نموذج آخر عن مفاوضاته مع صندوق النقد الدولي. والخطر على لبنان كبير، بل مصيري، في النموذجين:
في المفاوضات مع الصندوق، الجانب اللبناني لا يمتلك خطة واضحة. وهو منقسم بين طرح الحكومة أو السلطة التنفيذية وطرح مصرف لبنان.
وكذلك، في المفاوضات مع إسرائيل، لبنان لا يمتلك موقفاً حازماً. فهو تخلّى عن النقطة 23 وحدّد النقطة 29 هدفاً جديداً، ويعتبر أنّ حقَّه في التوسيع مضمون بالوثائق وغير قابل للنقاش. لكنه، في المقابل، يحاذر إقرار أي خريطة تؤكّد ذلك رسمياً، ولا يرسل أي مستند بها إلى الأمم المتحدة لتأخذ علماً بها وتصبح أمراً واقعاً جديداً على طاولة المفاوضات.
وضعية الإرباك اللبناني في المفاوضات كارثية، كما وضعية الإبهام المعتمدة في مفاوضة صندوق النقد الدولي. ولذلك على لبنان المسارعة فوراً إلى توقيع المرسوم 6433 القاضي بتوسيع المساحة، لأنّ الضغوط الدولية الجارية حالياً ستفرض عليه العودة إلى طاولة المفاوضات قريباً، وعليه أن يقرِّر وفق أي إطار سيخوضها.
في أي حال، براغماتياً، من مصلحة لبنان إرسال التعديل سريعاً إلى الأمم المتحدة، بعد إعلان شركة «هاليبرتون» الأميركية أنّها في صدد التنقيب عن آبار في المتوسط، بناءً على اتفاقها مع إسرائيل. وعموماً، الآبار المستهدفة تقع في المنطقة المتنازع عليها مع لبنان أو في جوارها، ما يعني أنّ إسرائيل قادرة على استغلالها في شكل علني أو مستتر، عن طريق السحب الأفقي من الآبار المشتركة.
لكن لبنان ليس في صدد حسم خياره. فما مِن طرف لبناني يريد تحدّي الولايات المتحدة إلى هذه الدرجة، في لحظة انهيار لبنان الاقتصادي والمالي والنقدي، وفيما المسؤولون «يلهثون» طلباً للدولارات من القوى والمؤسسات الدولية المانحة. كما أنّ أي طرف لبناني لا يجد مصلحة في التنازل عن مساحة تقارب الـ 1400 كلم2 هي من حق لبنان شرعاً.
في أيار الفائت، وبضغط أميركي، عُقِدت الجولة الخامسة في الناقورة. وعملياً، كانت أشبه بجلسةِ إنعاشٍ للمفاوضات بالصدمة الكهربائية. ولكنها فشلت بسبب إصرار الأميركيين والإسرائيليين على التزام إطار الـ 860 كلم2. بل إنّ الجانب الإسرائيلي ردّ على الطرح اللبناني المستجد بإطلاق العنان لطموحاتٍ لا تستند إلى أي منطق أو وثيقة، فوسَّع إطاره إلى نقطة بحرية تقع في مقابل صيدا!
ويقول العارفون إنّ تولّي الرئيس نجيب ميقاتي رئاسة الحكومة له مغزاه في رسم الخطوط العريضة للمرحلة المقبلة اقتصادياً. فهو رجل أعمالٍ يمتلك حنكة وخبرة في العلاقات والمصالح الاقتصادية على المستوى الاقليمي، وله استثمارات هائلة في معظم دول الجوار سمحت له ببناء شبكة ارتباطات بالأنظمة والحكومات.
وفي هذا المجال، هو أشبه برفيق الحريري في رئاسة الحكومة لا بسعد الحريري. وهو لذلك يعرف أنّ مستقبل الشرق الأوسط بكياناته وأنظمته وحكوماته مرتبط تماماً بكون هذه المنطقة حيوية جداً للعالم في مجال الطاقة.
فالشرق الأوسط يضمّ أكبر بقعة من النفط والغاز في العالم. ولكنه أيضاً المعبر المثالي من آسيا وأفريقيا في اتجاه أوروبا والغرب، عبر المتوسط. وهذه النقطة يدرك الإسرائيليون قيمتها جيداً ويستثمرونها برعايتهم لخط الغاز من مصر والأردن نحو قبرص واليونان فإيطاليا وفرنسا.
يراد من لبنان أن يحلّ مشكلات حدوده البحرية مع إسرائيل لتسهيل هذه النقطة. لكن الإيرانيين لهم شروطهم للتسهيل، والأتراك لهم طموحاتهم ومصالحهم أيضاً. وأما الروس فيحاذرون أن يصبح خط المتوسط بديلاً من الخط الذي به يزوِّدون أوروبا بالغاز، والذي يعتبرونه امتيازاً اقتصادياً وسياسياً شديد الأهمية لهم. وعلى الأرجح، سيأخذ الرئيس جو بايدن هواجس موسكو في الاعتبار ويحاول طمأنتها، بهدف إبعادها عن الصين بمقدار معين.
بالتأكيد، نقاش ميقاتي مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال زيارته باريس تناول مسألة الغاز وأهمية ترسيم الحدود لإطلاق مسارٍ يحتاج إليه لبنان بإلحاح. فالفرنسيون يريدون إطلاق مسار الغاز عبر الخط العربي- الإسرائيلي نحوهم، كما يهمّهم الاستثمار في عمليات التنقيب والاستخراج في لبنان. وجاء الحديث عن عودة الراعي الأميركي لمفاوضات الناقورة عاموس هوكشتاين خلال أيام ليؤكّد أنّ هناك شيئاً يتحرّك في الملف.
لا يتوقع الخبراء أن تتنازل إسرائيل عن مساحاتٍ مائية تتضمن آباراً مهمّة منها «كاريش» و»كاريش نورث»، بأي ثمن. ويقول بعضهم: ربما يتفاوض معها لبنان من منطلق أنّ النقطة 29 هي «سقف للتفاوض» وليست حقاً مكرَّساً. وبذلك يصبح ممكناً التراجع عنها مقابل الحصول على كامل الـ860 كلم2، بدلاً من نسبة الـ 55% منها التي أقرَّها الموفد الأميركي السابق فريدريك هوف.
ولكن، في العمق، حلّ الملف ليس بسيطاً إلى هذه الدرجة. فالشرط الأساسي لنجاح الاتفاق على توزيع الطاقة بين قوى الشرق الأوسط هو أن يشمل الجميع. ولا يمكن للبنان وإسرائيل أن يحلّا المشكلة الحدودية إلّا إذا اندرجت ضمن توافقات كبرى في الشرق الأوسط، ظاهرُها حول الطاقة لكن باطنها سياسي بامتياز.
في هذا السياق، السؤال الأبرز هو: كيف ستكون سوريا وما موقعها في خريطة الطاقة؟ وتالياً، ما موقع لبنان؟ وربما تكون الموافقة الأميركية والإسرائيلية على مدّ خطوط الغاز والكهرباء من الأردن ومصر عبر سوريا إلى لبنان جزءاً منها. وكذلك، غضّ النظر عن دخول البواخر الإيرانية.
خبراء الاستراتيجيا يعتبرون أنّ مستقبل توزيع الطاقة في الشرق الأوسط سيرسم مستقبل الكيانات والأنظمة أيضاً. ولذلك، «خِلِص المَزح». ولبنان الغارق في انهياره المتمادي سيتقرَّر نهوضُه أو انحلالُه في ضوء ما ستسفر عنه المفاوضات من نتائج سياسية واقتصادية: يكون أو لا يكون.
الأخطر أن يتقدّم لبنان بشكوى ضدّ إسرائيل إلى الأمم المتحدة، فتعتمد المنظمة الدولية على اتفاق إطار الـ860 كلم2 الذي زوّدها به لبنان أساساً، فتكتشف أنّ إسرائيل لم تعتدِ على الحقوق اللبنانية ولا تقوم بالتنقيب في منطقة متنازع عليها. وهذا ما يمنحها «كارت بلانش» لاستكمال مشاريعها بتغطية دولية.
لذلك، أركان المنظومة الحاكمة الذين قادوا البلد إلى كل أنواع الانهيارات سيتحمّلون مسؤولية تاريخية عن إرباكهم ومماطلتهم وتقاعسهم. لكن إغراء المال والسلطة ومصالح الخارج يبقى هو الأهم عندهم، ولو على حساب ما بقي من بلد.