المُفاوضات المَوعودة مع صُندوق النقد الدَولي لن تكون الأولى من نوعها، حيث سبق للحكومة الماضية برئاسة حسّان دياب أن عقدت مجموعة من الإجتماعات مع مُمثّلي الصُندوق، لكن من دون تحقيق نتيجة تُذكر. فهل ستحمل المفاوضات التي ستجري في ظلّ حُكومة نجيب ميقاتي النتائج المَرجُوّة؟.
خلال المُفاوضات السابقة، وفي تلك المُرتقبة قريبًا، من المُتوقّع أن يُطالب مُمثّلو صندوق النقد الدَولي مُمثّلي السُلطة في لبنان، بإعادة التوازن إلى ميزان المَدفوعات، لجهة المُوازنة بين المداخيل والمصاريف، بحيث تبدأ الدولة في لبنان رحلة الألف ميل لوقف العجز، ولإستعادة التوازن–ولوّ بشكل تدريجي، بمُساعدة طبعًا من قبل المُجتمع الدَولي وصُندوق النقد.
وليس بسرّ أنّ لبنان يُعاني حاليًا من عجز خطير جدًا في ميزان مدفوعاته، الأمر الذي يزيد من حدّة الضُغوط على الليرة، ويُعمّق أزمة الإنهيار الإقتصادي–المالي أكثر فأكثر، خاصة في ظلّ إنعدام توفّر العملات الأجنبيّة، وبخاصة الدولار الأميركي، في التداول. إشارة إلى أنّ التحويلات الماليّة من المُغتربين اللبنانيّين إلى الداخل تُقدّر بنحو 7 مليارات دولار سنويًا، والأموال المَسحوبة من المصارف والمُخزّنة في المنازل تبلغ نحو 10 مليارات دولار، ولا يُستعمل منها في السوق سوى القليل القليل عند الضرورة القُصوى. وفي كلّ الأحوال، هذه المبالغ لا تسدّ الثغرة الماليّة الهائلة التي ظهرت إلى العلن خلال السنتين الماضيتين، لجهة تبخّر عشرات مليارات الدولارات من أموال الناس، حيث أنّ قيمة الودائع في المصارف التجاريّة والخاصة تبلغ نظريًا نحو 110 مليارات دولار، لكنها فعليًا أقلّ من ذلك بكثير، في ظلّ تعتيم كامل وتام عن حقيقة المبالغ المُتبقّية لدى المصارف، بإستثناء ما يُعلن عنه مصرف لبنان من موجودات مُتبقّية لديه.
والمُشكلة أنّ تقدير قيمة الخسائر الفعليّة يختلف بين طرف وآخر، الأمر الذي كان حذّر منه البنك الدَولي الذي أكّد أنّ عدم التعامل بشفافيّة مع مسألة الخسائر يُطيل الأزمة ويجعلها أكثر صُعوبة. إشارة إلى أنّ حُكومة نجيب ميقاتي لم تُقدّم بعد أيّ دراسة لحجم الخسائر التي لحقت بالدولة وبالمصارف الماليّة، علمًا أنّ الحُكومة السابقة كانت قدّرت حجم هذه الخسائر بنحو 241 ألف مليار ليرة لبنانيّة، في حين قدّر المصرف المركزي ومعه جمعيّة المصارف الخسائر بأقل من ذلك بكثير، بينما إعتبرت لجنة تقصّي الحقائق البرلمانيّة أنّ الخسائر تتراوح ما بين 60 و90 ألف مليار ليرة. والأخطر من هذا التناقض الفادح وغير المنطقي في إحتساب الخسائر، أنّ لبنان الذي كان قد تخلّف للمرّة الأولى في تاريخه عن تسديد مُستحقات سندات "يوروبوندز" في ظلّ حُكومة دياب، مدين بأكثر من 30 مليار دولار أميركي لجهات قادرة على رفع دعاوى قضائيّة بوجهه والفوز بها، ما لم يُسارع إلى إعادة جدولة هذه المدفوعات ضُمن خُطة تسديد واضحة.
وإذا كانت خُطة الحكومة السابقة الإصلاحيّة لم تُبصر النور بسبب إضطرارها إلى الإستقالة بعد إنفجار الرابع من آب، فإنّ الأنظار شاخصة نحو الحكومة الجديدة التي يُفترض أن تُطلق من جهتها خُطّة إصلاحيّة تمتدّ أيضًا لسنوات عدّة، في ظلّ همس مُتزايد عن إتجاه لتبنّي الكثير من نقاط خطّة الحكومة السابقة. في كلّ الأحوال، ليس بسرّ أنّه لا يُمكن أن يُكتب النجاح لأيّ خطة، ما لم يتمّ إعادة هيكلة الديون، وإعادة الثقة بالمصارف، وإستعادة الأموال المُهرّبة إلى الخارج بعد 17 تشرين الثاني 2019، وترشيد الإنفاق ووقف الهدر، ومُعالجة مُشكلة عجز مؤسّسة كهرباء لبنان، وتحجيم هيكليّة القطاع العام، وتحرير سعر الصرف، ووقف كل أشكال الدعم، وتطبيق خطّة إقتصاديّة-ماليّة تُحفّز الإستثمار وترفع واردات الدولة، إلخ.
والأسئلة التي تفرض نفسها حاليًا، هي: متى ستبدأ المُفاوضات الرسمية مع صُندوق النقد الدولي، وكم ستستغرق من وقت؟ وما هي خُطّة الحُكومة الإصلاحيّة، وهل سيكون لديها الوقت لإنجازها؟ وهل ستتجرّأ الحُكومة مثلاً على تقليص عدد مُوظّفي القطاع العام، أو على فرض مزيد من الضرائب، أو على رفع أسعار العديد من الخدمات، ولبنان مُقبل مبدئيًا على إستحقاقات إنتخابيّة حاسمة؟ وما هو مدى إستعداد المُجتمع الدولي وصُندوق النقد لمُساعدة لبنان ماليًا، ووفق أي شروط إصلاحيّة، وحتى وفق أي شروط سياسيّة؟ وماذا سيكون مصير أي خُطة نُهوض بمُساعدة دَوليّة، في حال تبدّل هويّة رئيس الجمهورية، والحكومة ورئيسها، بعد انجاز الإستحقاقات الإنتخابيّة المُقبلة؟ والأهمّ من كل ما سبق، كيف سيتلقّف الشعب اللبناني العاجز بأغلبيّته عن تأمين الحد الأدنى من مُتطلّبات الحياة الكريمة، في ظلّ الغلاء المُستشري وإنعدام القُدرة الشرائيّة، أيّ تدابير قاسية إضافيّة من قبل السُلطة، بعد أن فقد قُدرته على الصُمود لفترة زمنيّة أطول؟!.
أسئلة كثيرة لا تزال الإجابات عنها مُبهمة حتى تاريخه، لكنّ الأكيد أنّ مُساعدات صُندوق النقد الدَولي ليست نُزهة ولا سحرًا، بمعنى أنّ الطريق الإصلاحي سيكون قاسيًا وطويلاً، والتحسّن سيكون بطيئًا وتدريجًا، في أفضل الأحوال!.