يطلّ البطريرك من مقره الصيفي في الديمان على وادي قنوبين، يسترجع تاريخ اسلافه، تحدّياتهم ومآسيهم. يستقبل زواره وصانعي القرار من السياسيين والسفراء على هذه الشرفة التي تطلّ على الجغرافيا راسِمة الجبال والوديان فيما هي تروي التاريخ عبر مغاور وادي قاديشا وأديرته. هي رسالة بحد ذاتها تختصر التاريخ والجغرافيا.
انه السابع والسبعون على كرسي البطريركية المارونية، المؤسسة الاقدم في الشرق، يتوالى عليها منذ حوالي 15 قرناً بطاركة يحملون قضية واحدة: الحفاظ على هذه المجموعة التي تعيش وسط شرق عاصِف متقلّب مفتوح أمام غزوات الامبراطوريات المتتالية. لم تعرف هذه الجبال التي احتضنت الموارنة سلاماً في تاريخها. يتطلع اليها الغزاة حالمين بإخضاعها فيما بقيت وتبقى قبلة طالبي الحرية على تعدد أديانهم ومشاربهم.
شكّلت طبيعة جبال لبنان وموقعها ملجأ للمضطهدين فاختلط الموارنة بمختلف الطوائف والاعراق متعايشين معها، لكنهم تصدّوا في الوقت عينه لأيّ غاز يودّ اقتحام معاقلهم أو إخضاعهم. أحسنوا استخدام المعول لتسهيد جبالهم الوعرة وزراعة أرضهم الصخرية، هم شعب مزارع أكثر منه مقاتل، لكنهم لم يتوانوا عن حمل المعول كسلاح للدفاع عن أرضهم وعقيدتهم. يتوقون الى السلام. نسّاكهم يقطنون المغاور. بطاركتهم وزعماؤهم، في ما مضى، لم يعرفوا القصور ولا الثروات ولا صلبان الذهب. لم يحلموا يوماً بالتوسّع خارج جبالهم إنما حلموا بالاستقرار وممارسة إيمانهم وعقيدتهم بحرية. سعوا جاهدين لتأسيس دولة كي تشكل لهم هذا الإطار الحاضن.
يدرك السابع والسبعون جيداً دور كرسيه في قيادة هذا الشعب. في خطاب تَسلّمه مهامه على الكرسي البطريركي في 25 آذار 2011 استذكَر أسلافه واحدا واحدا، مُعدداً ما قاموا به في سبيل شعبهم. «برنامجي امتداد لتاريخ اسلافي، وعلى مدى 1600 سنة، لثوابتهم الايمانية والوطنية». ثم استعرض بعض محطاتهم وصولاً الى البطريرك جبرايل حجولا «الذي سلّم نفسه الى والي طرابلس المملوكي فدية عن الأساقفة والرهبان والاعيان المعتقلين وأُحرق بالنار في ساحة المدينة سنة 1367». وعدد انجازاتهم وصولا الى البطريرك أنطون عريضه «الذي رهن صليبه وخاتمه مطراناً لإطعام جياع الحرب العالمية الأولى».
هكذا، فان سيّد الصرح مُدرك جيداً لدوره التاريخي ولمسؤولياته حيال شعبه في أزمنة المخاطر. وها هو اليوم امام محطة تاريخية من تاريخ جماعته في مرحلة تبدو الأصعب منذ تأسيس الكيان على يد البطريرك الحويك قبل مئة عام، يسترجع التاريخ للمشورة. فالكيان في خطر، شعبه بائس ويائس. إطار الحماية التي كانت تشكلها الدولة قد سقط أو هو على وشك الانهيار. سقطت المؤسسات وسقط إطار الأمان، فيما يرفع الشعب عينيه الى كنيسته. لكن لا الرهبانيات، الاطار الكنسي الآخر، حاضرة ولا هي تبدو مُدركة لحجم المأساة، فباتت بكركي مرة جديدة في الخط الأول في دورها التاريخي، ترفع سقف خطابها يوما عن يوم. لا تتوانى، وهي مُحقّة في ذلك، عن اتهام الطبقة السياسية بأبشع الاتهامات. هي تتّهم هذه الطبقة بأنها المسؤولة عن الانهيار وبأنها لا تهتم بمعاناة الشعب ولا بمصير الوطن، ولا همّ عندها سوى مصالحها الآنية. غير ان الاتهام والتعنيف اللفظي والتوبيخ، أنّى عَلت، لم تنجح في تغيير المسار السياسي.
صعد الناس الى بكركي في تظاهرة عفوية كبرى في 27 شباط الماضي، قال لهم سيّد الصرح: «لا تسكتوا بعد اليوم»، وكأنه يلاقي انتفاضة 17 تشرين. توقّعوا منه خطوات تصعيدية وصولاً الى العصيان المدني، لكن لم يكن هناك من تتمة.
قدّمت بكركي طرحا سياسيا إنقاذيا على صعيد الوطن، مشروع الحياد الإيجابي، فقام عليه من يحتكرون القرار الوطني من دون ان تلاقيه القيادات او الأحزاب الحليفة، حتى المسيحية منها بقيت خجولة. سلاح البطريرك حتى الآن هو خطابه الوطني. لكنّ الواقع القائم انه لم يعد للكلام من فائدة وأن المُمسكين بالسلطة لا يريدون أن يسمعوا. المؤسسات معطلة، الدولة متحللة، الشعب في حال الذل والعذاب، وكلام الصرح يقابله كلام مضاد ولا من نتيجة.
لقد سبق لسيد بكركي أن رفع سقف خطابه في فترة الفراغ الرئاسي طيلة سنتين ونصف ولم يغيّر شيئاً على الأرض. شأن الامس شأن اليوم. فماذا بعد؟
الرعيّة تنتظر ان تكون بكركي في هذه المرحلة خليّة نحل، تخطط، تقترح، تعالج، وعند الحاجة تضرب على الطاولة، وإذا اضطرها الامر تقلبها. غير أن بكركي اليوم تبدو بعيدة عن ذلك. شبكة الرعايا والابرشيات المنتشرة على كامل الوطن صامتة وغير مفعّلة، واراضي الأوقاف الواسعة بائرة، والمؤسسات الداعمة، كالرابطة المارونية وغيرها في حال سبات عميق.
بكركي اختارت الخطاب أداة حراك والصلاة وسيلة نضال. في الواقع كل الأدوات صالحة المهم أن تقود الى الهدف المنشود. لكن أين هي من الهدف!!
يستذكر العارفون حرقة العلامة الاب يواكيم مبارك الذي أراد تحويل بكركي الى مؤسسة، وانتهى به الامر مَنفياً طوعياً في فرنسا، فيما تبقى خماسيته مرجعا إلزاميا لتاريخ المؤسسة والشعب.
بات الموارنة منتشرين في كل اصقاع الأرض، وباتت لهم ابرشياتهم في كل دول الانتشار، لكنهم يتناقصون في الأرض التي شهدت ولادتهم. بات الخطر في الداخل، فيما المعالجات غائبة، وطاقات الانتشار الهائلة لا تترجم في مكان. لا بل فإنّ موارنة الداخل، قيادات واحزاباً ومجموعات، منقسمون على أنفسهم تنقصهم الرؤيا الموحدة والمشروع الإنقاذي الجامع، فيما الكيان ينهار.
ليست فقط أنظار الموارنة والمسيحيين مَن تَتطلّع الى دور آخر لبكركي، انما أنظار الطوائف الأخرى أيضا، فالجميع ينشد الخلاص الذي لا يمكنه أن يأتي من طبقة سياسية ضحّت بالكيان والدستور والمؤسسات في سبيل حفنة من المال أو طمعاً بكرسي مخملي، هذه الطبقة غير الآبهة بصريخ الأطفال، ودموع الأمهات وقلق الآباء، والتي تعامت عن مستقبل شباب يصطفون امام السفارات في انتظار ورقة تسمح لهم بركوب أي طائرة.
الشعب يتطلع الى بكركي على أنها الملاذ الأخير، غير أن بيانات مجلس المطارنة لا تطعم جائعا، وعظات الاحد لا توقف هجرة الشباب. بكركي مرة جديدة على موعد مع استحقاق تاريخي، هي مدعوّة الى أن تصنعه لا ان تَنصاع له. بكركي لم تقل كلمتها بعد.