بعد تشكيل الحكومة وانطلاقتها في العمل، ولو بوتيرة "خجولة" نسبيًا، بدأ حديث الانتخابات النيابية يتصدر الاهتمام السياسي في البلاد، على بعد أشهر معدودة من موعدها المفترض، والذي تعهد رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي احترامه، بل "تبكيره"، مع تحديد الدوائر المعنية نهاية آذار موعدًا للاستحقاق استباقًا لشهر رمضان المبارك الذي قد يقف حاحزًا أمام الحملات الانتخابية المعتادة.
من بوابة تصويت المغتربين تحديدًا، تصدر الاستحقاق الانتخابي الاهتمام في الأيام القليلة الماضية، في ظل "كم" من الإشاعات التي تحتمل الصحة، حول حرمان المنتشرين في شتى أصقاع العالم من حقهم المكرس في القانون بالتصويت لاعتبارات متنوعة، بعضها لوجستي وتقني، انطلاقًا من تعقيدات القانون، وبعضها الآخر سياسي، وقد عبر عنها "حزب الله" بموقف واضح.
ومع أن وزيري الداخلية والخارجية أطلقا العنان لانتخابات المغتربين وباشرا بتطبيق الإجراءات اللازمة الممهدة لها تطببقًا للقانون، ولو تركا المجال مفتوحًا أمام أي "مناورات" في ربع الساعة الأخير، فإن "التشكيك" بحصول هذه الانتخابات لا يزال طاغيًا، لا سيما في ظل حديث عن "استحالة" المضي بالقانون كما هو، ووجوب اللجوء إلى تعديله عبر البرلمان.
بشير أصحاب هذا الرأي إلى وجود إشكالية في نص القانون الذي "يستحدث" للمرة الأولى دائرة انتخابية خاصة للمغتربين قوامها ستة نواب يمثلون القارات المختلفة، ويتوزعون بالتساوي على الطوائف والمذاهب الأساسية، ما يعني أن المغتربين سيكون عليهم انتخاب هؤلاء النواب وليس أعضاء البرلمان الآخربن وفقًا للدوائر الأصلية التي ينتمون إليها داخل لبنان كما فعلوا في 2018.
هنا تطرح العديد من علامات الاستفهام من قبل "المتوجسين" من تطبيق القانون بحرفيته، وقد كان نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي واضحًا في إثارتها أخيرًا، يوم تساءل عن "المعايير" التي سيتم بناء عليها "تصنيف" القارات وفق الطوائف، في حين يتحدث البعض عن صعوبات "لوجستية" تفرضها هذه المادة التي لا تزال غير مفهومة ولا واضحة لدى شرائح واسعة من الرأي العام.
لكن خلف الأبعاد اللوجستية، تبدو الأبعاد السياسية أكثر من حاضرة، وقد تطوع "حزب الله" مرة أخرى للتعبير عنها صراحة على لسان نائب أمينه العام الشيخ نعيم قاسم الذي غمز من قناة غياب المساواة وتكافؤ الفرص، إذ إن مؤيدي الحزب لن يحظوا في الكثير من الدول بحرية الحركة نفسها شأنهم شأن بقية الأحزاب، لا سيما إنه محظور في بعضها ومصنف "إرهابيًا".
لهذه الأسباب، يخشى كثيرون أن يكون القرار اتخذ بإلغاء تصويت المغتربين وهو ما يحذر منه الخبراء، لأن هذا الإصلاح الذي اكتسب بقوة القانون لا ينبغي التفريط به، علمًا أن كلا الحالتين، سواء إلغاء تصويت المغتربين أو جعله على نموذج 2018 بعيدًا عن صيغة "ستة وستة مكرر" يفترض تعديلاُ على قانون الانتخاب، منعًا لأي طعن بدستورية الاستحقاق برمته.
ولأن مجلس النواب سيكون الجهة المخولة إجراء هذا القانون، تخشى العديد من الأوساط السياسية أن يفتح التعديل المفترض "شهية" الأطراف السياسية المعترضة أساسًا على القانون لفتح "ورشة" التعديل، علمًا أن هناك من يجزم أن العديد من بنود القانون تتطلب تعديلات، لكنها تبقى تعديلات طفيفة وشكلية ترتبط بالقدرات الإدارية على التنظيم ولا تمس بجوهر القانون.
من هذه التعديلات على سبيل المثال لا الحصر ما يتعلق بالميغاسنتر والتصويت مكان السكن، وهي أفكار إصلاحية لا تزال تصطدم برفض بعض القوى السياسية التي تصر على "حصر" التصويت بالدوائر، بما يتيح للأحزاب النافذة الإشراف المباشر على عمليات التصويت، وبالتالي رفع مستوى "الزبائنية السياسية" متى لزم الأمر، وفق ما يؤكده الخبراء الانتخابيون.
وثمة من يطرح بالموازاة تعديلات أيضًا ترتبط بالتغييرات الكبرى التي شهدها لبنان اقتصاديا واجتماعياً منذ الدورة الانتخابية الأخيرة، لا سيما ما يتعلق بانهيار العملة، ما يعني إن الأرقام التي نص عليها القانون في الأقسام الخاصة بالإنفاق والتمويل الانتخابيين قد لا تتناسب مع الوضع الجديد الناشئ، وهو ما قد يؤدي لتعميق غياب المساواة وتكافؤ الفرص بين المرشحين المحتملين.
لكن أبعد من هذه التعديلات التي قد تبدو منطقية وواقعية إلى حد بعيد، ثمة من يتوجس من أن يستغل البعض الفرصة لطرح تعديلات جوهرية على القانون، علمًا أن قوة وازنة حاولت مرارًا وتكرارًا طرح موضوع القانون الانتخابي للنقاش على مدى السنوات الماضية، وهي تسعى لتغيير النظام برمته، ولا سيما ما يتعلق بحجم الدوائر الانتخابية وآلية الاقتراع وفرز الأصوات.
ومع أن القانون الحالي ليس مثالياً بطبيعة الحال، إذ يؤكد الخبراء أنه يخلو من مجمل الإصلاحات التي يتطلعون إليها، حتى إن النسبية التي يشتمل عليها تبدو وهمية، بل نظامًا أكثريًا مقنعًا؛ فآن الخوف الأكبر يبقى أن يكون تعديل القانون بمثابة "الطعم" الذي يمكن أن يبرر تطيير الانتخابات برمتها، بذريعة "التمديد التقني" مثلا، كما حصل في آخر تمديد للبرلمان بعد إقرار القانون.
في النتيجة يمكن القول إن العد العكسي بدأت وإن مبدأ إجراء الانتخابات يبدو محسومًا، في ظل وجود مجتمع دولي يراقب وبضع الاستحقاق الديمقراطية ضمن "شروط" دعم الحكومة. لكن الحذر يبقى أكثر من واجب، لأن هناك من ينتظر أي "ثغرة" ليتسلل منها للإطاحة بانتخابات لا تزال كل التقديرات تؤكد أن أضرارها للقوى التقليدية تفوق منافعها، أقله حتى إثبات العكس!.