مطلع تشرين الأوّل 2020، تمّ الإعلان عمّا سُمّي "إتفاق إطار" لمفاوضات غير مباشرة بين لبنان وإسرائيل برعاية الأمم المُتحدة، بشأن ترسيم الحدود البحريّة. وظنّ الكثيرون في حينه أنّه يُوجد ضوء أخضر دَولي، وأميركي تحديدًا، لإنجاح هذه المُفاوضات بسرعة، وبدأ الحديث عن قُرب تحوّل لبنان إلى دولة مُصدّرة للنفط والغاز. لكنّ ما حصل على مدى سنة كاملة، أظهر أنّ الأمور ليست بهذه البساطة، وتطوّرات الأيّام القليلة الماضية دلّت على أنّ لبنان قد يُفوّت كليًا فرصة الإستفادة من هذه المواد الأوّليّة البالغة الأهميّة. فما الذي يحصل؟.
من المَعروف أنّه في أيّ عمليّة تفاوض، يرفع المُفاوضون السقف بداية، ليبدأوا بالتنازل تدريجًا، وُصولاً إلى تسوية وسطيّة، تُعبّر عن كلّ من موازين القوى وحجم التدخلات والظروف المُرافقة من مُختلف جوانبها. لكنّ الفريق اللبناني المُفاوض سلك طريقًا مُغايرًا، بحيث رفع سقف مطالبه في مرحلة متقدّمة من المفاوضات، وتحديدًا بعد أشهر طويلة من إنطلاقها، الأمر الذي أسفر عن توقّف هذه المفاوضات. واليوم، لم يتحرّك هذا الملفّ مُجدّدًا، إلا لأنّ إسرائيل ضربت عرض الحائط بالمطالب اللبنانيّة، ووقّعت إتفاقات مع شركات عالميّة للتنقيب عن الغاز في مواقع مُلاصقة ما لم تكن مُتداخلة لمناطق يُطالب لبنان بأن تكون من حصّته. وقبل إستعراض ما يُمكن أن ينتج من هذه الخُطوة الإسرائيليّة التصعيديّة التي إكتفى لبنان بمواجهتها برفع شكوى إلى الجّهات الدَوليّة، وبالمُطالبة بمعاودة إطلاق المفاوضات، لا بُدّ من إستعراض نقاط القُوّة ونقاط الضعف غير المُتوازنة بين لبنان وإسرائيل، في هذا الملف الحسّاس.
وفي هذا السياق، إسرائيل سبقت لبنان بأشواط في الملف النفطي–الغازي، حيث أنّها بدأت فعليًّا عمليّات التنقيب وإستخراج هذه المواد الأوليّة الحيويّة منذ سنوات طويلة، ووقعت إتفاقات دوليّة عدّة، إن للتنقيب أم للتصدير. في المُقابل، لا يزال لبنان مُتعثّرًا ومتأخّرًا جدًا في هذا الملف، ليس فقط على مُستوى "البلوكات" الحُدوديّة المُتنازع عليها، إنّما أيضًا على مُستوى "البلوكات" التي لا تُوجد إشكالات بشأنها.
إسرائيل تستفيد من دعم دَولي كبير، لا سيّما من جانب الولايات المُتحدة الأميركيّة والعديد من الدول الغربيّة، بينما يتعرّض لبنان لضُغوط دوليّة لدفعه لخفض سقف شروطه، ويتمّ إستخدام هذا الملفّ لتحصيل مكاسب سياسيّة وحتى أمنيّة منه.
شركات النفط والغاز العالميّة دخلت في عُقود طويلة الأمد مع إسرائيل، بينما هي مُتردّدة جدًا وبطيئة جدًا في التعامل مع الملفّ النفطي–الغازي اللبناني، ما يعني أنّ مصالحها الماليّة والتجاريّة الإستراتيجيّة تميل بوضوح إلى جانب إسرائيل وليس لبنان، وهي لذلك غير مُهتمّة بالإسراع في توقيع الإتفاقات مع بيروت.
مُحاولات لبنان ربط ملفّ ترسيم الحدود البحريّة بملفّ الحدود البريّة، وكذلك بتوسيع دائرة المنطقة البحريّة التي يُطالب بها، عرقلت وتُعرقل المفاوضات وتؤخّرها، الأمر الذي صبّ عمليًا وعن غير قصد في صالح إسرائيل، لأنّها تُتابع إدارة ملفّها النفطي–الغازي في كل "البلوكات"، بما فيها "البلوكات" الحدوديّة المُتنازع عليها، بينما لا يزال لبنان يُصرّ على إنطلاق عمليّات التنقيب من "بلوكات" مُتنازع عليها، ما أدخل كل هذا الملفّ في الثلاجة بالنسبة إلى الجانب اللبناني.
تُفاوض إسرائيل من موقع قويّ ومُتعجرف، وهي لا تنتظر الأحكام الدَوليّة، وتعتدي على المياه الإقليميّة اللبنانيّة لفرض وقائع ميدانيّة، بينما تسود البلبلة الجانب اللبناني في ظلّ إرباك بالخطوط والنقاط الحدوديّة الواجب التمسّك بها خلال عمليّات التفاوض، وكذلك في ظلّ خلافات داخليّة بين أكثر من طرف بشأن الأسلوب الواجب إتباعه في إدارة المفاوضات، حيث هناك من يُطالب بالتشدّد والحزم-ولوّ تأخّرت عمليّات إستخراج النفط والغاز لسنوات، وذلك بحجّة رفض التفريط بحقوق لبنان، في مُقابل من يُطالب بالتضحية قليلاً ببعض المطالب بهدف عدم التأخّر لمزيد من الوقت في تحوّل لبنان إلى بلد نفطي، خاصة أنّ رفع سقف المطالب قد يُحوّل المنطقة البحريّة المُتنازع عليها إلى "مزارع شبعا بحريّة"–إذا جاز التعبير، لجهة فرض إسرائيل واقعًا ميدانيًا بالقُوّة، وإكتفاء لبنان بالتهديد والوعيد، من دون أيّ مكاسب عمليّة ملموسة!.
في الختام، لا شكّ أنّ على لبنان المُسارعة اليوم قبل الغد إلى العودة إلى طاولة المفاوضات، ومن الضروري التوصّل إلى توافق داخلي بشأن الخط 29 قبل نقل الملفّ إلى طاولة المفاوضات. فمن غير المعقول أنّ يذهب الوفد اللبناني من دون أن يكون مدعومًا بموقف موحّد بما سيُطالب به؟ فحتى هذه اللحظة لم يُوقّع رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون المرسوم رقم 6433 المُعدّل، ولم يقم لبنان بإيداع خرائط الخط اللبناني 29 في سجلات الأمم المُتحدة، بسبب تضارب في النظريّات بين من يعتبر أنّ رفع سقف المطالب إلى أقصى حدّ قد يوقف المفاوضات، ما يخدم إسرائيل المُستمرّة بأعمال التنقيب منذ سنوات بعكس لبنان، ومن يعتبر أنّ التوقيع يؤمّن توازن ردع معها يمنعها قانونًا من الإعتداء على الحقوق اللبنانيّة!.