لا تعوّل العواصم الغربية كثيراً على ما يمكن ان تقدّمه حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، خصوصاً على مستوى الإنقاذ الاقتصادي والمالي للبنان. ذلك انّ العراقيل المستندة الى المكاسب والحسابات الخاصة طوال اشهر التعطيل، خفّضت من سقف طموحات الفرنسيين، لتصل في نهاية الامر الى مطلب وجود حكومة كأولوية، ولو انّ التشكيلة الحكومية إستندت الى المحاصصة والحسابات الضيّقة.
ليس سراً انّ باريس أبدت في الأشهر الأخيرة خشيتها من ان يكون بعض أطراف السلطة لديه مشروع كامل متكامل، بحيث تكون العرقلة هدفاً سيسمح لاحقاً بعدم حصول انتخابات نيابية، ومن ثم التمديد لما تبقّى من مواقع، وعلى رأسها رئيس المجلس النيابي ورئيس الجمهورية. ما يعني عندها طرح «أزمة نظام»، والذهاب الى مؤتمر تأسيسي وإنتاج دستور جديد، وهو ما ألمح اليه صراحة البعض.
خفض سقف الآمال دفع بباريس صاحبة المبادرة باتجاه لبنان ومدعومة من واشنطن، الى حياكة تسوية اقليمية، مع أثمان لا تزال غير واضحة، سمحت بحصول ضغوط قوية لإنجاز الولادة الحكومية، ولو وفق معيار المحاصصة.
وكان لافتاً بعدها الموقف الفرنسي البارد باتجاه رسالة «حزب الله» للمحقق العدلي طارق البيطار.
الموقف كان كلاسيكياً ومن دون مفاعيل تنفيذية، اي تسجيل موقف لا أكثر. حتى الموقف الصادر عن لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس الاميركي جاء متأخّراً جداً، وهو لا يُلزم الإدارة الاميركية بشيء، ما يعني انّه سيبقى أيضاً في اطار تسجيل المواقف لا أكثر.
إلى جانب ذلك، كان لافتاً إغلاق المحكمة الدولية، والتي كانت مخصّصة لملف اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والعذر بعدم توفر الاعتمادات المالية غير مقنع. الأرجح انّ قراراً سياسياً صدر بإقفال هذا الملف بشكل نهائي، وسط تبدّلات ومفاوضات سرّية تشهدها منطقة الشرق الاوسط لإعادة ترتيب خارطة النفوذ فيها.
من هذه الزاوية، قد تكون باريس ومعها واشنطن، قد نجحتا بتوجيه رسالة واضحة من خلال ولادة الحكومة اللبنانية، وهي بأنّ تغيير نظام الحكم في لبنان من خلال دستور جديد مسألة غير مطروحة.
وبالتالي، فإنّ أمام حكومة ميقاتي مهام قليلة لإنجازها، طالما انّ التشاؤم يغلب على مهامها الإنقاذية للاقتصاد اللبناني. فمن دمّر الاقتصاد يصعب عليه إعادة إصلاحه.
لذلك مثلاً، قرّرت باريس وعلى الرغم من المشاكل الداخلية الكثيرة لفرنسا، وأيضاً الصعوبات الاقتصادية الفرنسية، قرّرت تجديد مساعدتها المدرسية للبنان عاماً ثانياً بعد ان كان حُدّد سابقاً بسنة واحدة.
كذلك، فإنّ المبعوث الفرنسي بيار دوكان سيحمل معه أفكاراً جديدة خلال زيارته للبنان، لكن الأهم انّ واشنطن وباريس مهتمتان جداً بضرورة إجراء الانتخابات النيابية اللبنانية، وتعتبران انّها المهمّة المطلوبة من الحكومة اللبنانية، قبل الانتقال الى الاستحقاق الاصعب والأكثر تعقيداً، والمقصود هنا الانتخابات الرئاسية.
واشنطن وباريس تدركان انّ معظم القوى السياسية اللبنانية ذاهبة «غصباً عنها» الى الانتخابات النيابية. وبخلاف مكابرتها العلنية، فهي تدرك جيداً مدى «النقمة» الشعبية الحاصلة، بسبب الدرك الذي وصل اليه اللبنانيون، ما جعلهم يتسابقون «للهرب» من لبنان وسط أعداد خيالية لطالبي تأشيرات اجنبية.
على سبيل المثال، فإنّ طلب الحصول على التأشيرة الاميركية بات يتطلب حوالى السنة بسبب كثافة المتقدّمين.
القوى السياسية تدرك بأنّ الطبقة الوسطى التي دُمّرت تماماً تريد «الثأر» في صناديق الاقتراع. لكن الطبقة السياسية التي لم تستسلم بعد، تعمل على خطين: الأول، السعي الى خفض نسبة الاقتراع، والثاني، تشتيت قوى المعارضة من خلال شرذمتها ودفعها الى خوض الانتخابات بلوائح متعددة.
وهذا ما دفع كثيرين للوقوف فعلياً على السبب الحقيقي لتحديد الانتخابات في أواخر آذار بدل شهر ايار. فهل المقصود الرهان على الطقس لتأجيل او ربما خفض نسبة المقترعين؟ أم حشر الوقت لقطع الطريق على اقتراع المغتربين؟
وعلى الرغم من الاعتراضات الحاصلة حيال اقتراع المغتربين، الّا انّ الاوساط الديبلوماسية الاميركية كما الفرنسية، تبدو واثقة بمشاركة المغتربين بالعملية الانتخابية.
في لبنان، من الواضح انّ هنالك تفاهماً ضمنياً بترك مهمة قطع الطريق على مشاركة المغتربين على عاتق «حزب الله»، وحيث ستظهر عوائق تتعلق بتأمين الاعتمادات المالية لاقتراع المغتربين، الّا أنّ الاوساط الديبلوماسية الغربية تعرف جيداً انّ قوى حزبية حليفة لـ»حزب الله» تختبئ خلفه ولو انّها تعلن عكس ذلك. وانّ مشاركة المغتربين في العملية الانتخابية مسألة محسومة.
في التحالفات الانتخابية، فإنّ المحسوم حتى الآن التزام «حزب الله» بتحالفه مع «التيار الوطني الحر» وسعيه الى تأمين مقاعد له حيث يستطيع، مثل دوائر بعلبك - الهرمل، حيث سيكون مرشح الكاثوليك من نصيب «التيار الوطني الحر»، إضافة الى زحلة وجزين وبيروت الثانية وبعبدا.
سيعمل «حزب الله» على دعم «التيار الوطني الحر» بالأصوات وحتى لوجستياً كما فعل عام 2009 على سبيل المثال. وهو لذلك مثلاً أبلغ حلفاءه عدم رضاه على تشكيل لائحة موحّدة في البقاع الغربي تشمل القوى الاساسية، وهو ما ادّى الى إجراء مصالحة بين الرئيس سعد الحريري وعبد الرحيم مراد. ذلك انّ هذه اللائحة كانت ستستثني مرشح «التيار الوطني الحر»، وهو ما يعني انّه سيكون اكثر من لائحة في هذه الدائرة.
وفي الجبل، حسم وليد جنبلاط أمره بعدم التحالف مع «التيار الوطني الحر»، مع إبقاء الباب مفتوحاً امام التحالف او عدمه مع «القوات اللبنانية». فلهذه المسألة حسابات أبعد من الساحة اللبنانية، وهو في الوقت نفسه أطلق يد نجله تيمور ليختار أسماء تشكيلته، وهو يريد من الانتخابات ان تشكّل المعمودية الشعبية لانتقال الزعامة الى نجله.
اما الرئيس سعد الحريري فلا تزال خياراته مفتوحة حيال خارطة تحالفاته. لكن ما يغفل عن البعض، انّ رياح التغيير تلفح شرائح واسعة من اللبنانيين وخصوصاً شريحة الشباب. صحيح انّ شعور الغضب يسود قطاعات واسعة من اللبنانيين جراء النتائج التي وصلوا اليها، لكن هنالك عاملاً اساسياً اضافياً له علاقة بتبدّل المزاج والقناعة الاجتماعية.
في السابق جاء التبدّل لصالح الأحزاب. وتصاعدت المطالبة الاجتماعية بالذهاب نحو الحداثة وخيار الاحزاب.
لذلك مثلاً، شهد الانفجار الشعبي في 17 تشرين موقفاً شبابياً موحّداً لا علاقة له بالانتماءات الدينية والمذهبية. وهذا لا يعني انّ هذه «الانتفاضة» الاجتماعية لا تريد الاحزاب، لا بل على العكس، هي تريد احزاباً حقيقية لا عناوين حزبية فارغة لمصالح عائلية تعتاش على الصراع المذهبي والطائفي وتأمين المحاصصة على حساب المصلحة العامة وبناء دولة حقيقية.
وإذا ما قُدّر لقوى السلطة ان تفشل في الحدّ من المشاركة الشعبية في الانتخابات ومن توحيد لوائح المعارضة، فإنّ مفاجآت كبيرة ستشهدها نتائج الانتخابات، رغم عبارة التخدير التي يرفعها رجال السلطة، بأنّ النتائج لن تتغيّر كثيراً بل ستطال مقاعد معدودة.
هم يعرفون الواقع، لذلك يفضّلون تأجيل الانتخابات لا بل إلغاءها.