هل بدأت فعلاً تظهر علامات «الفشل المبكر» على حكومة الرئيس نجيب ميقاتي؟ وهل «مُهلةُ السماح» التي تطلبها، لـ90 يوماً، هي فقط من باب المراهنة على الغيب، كما المهلةُ التي طلبتها حكومة الرئيس حسان دياب؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا تمَّ ترحيل دياب والمجيء بميقاتي؟
يعترف القريبون من ميقاتي بوجود علامات سلبية ظهرت أمامها، في أول الطريق، تحديداً على المستويين الاقتصادي والاجتماعي. وفي عبارة أوضح، تراجعت العلامات الإيجابية القليلة التي ظهرت عند التكليف، وتقدَّمت الأزمات المستعصية التي كانت قائمة قبله، أو بقيت تراوح مكانها:
عودة الدولار إلى الصعود، الإرباك في ملفات الكهرباء والمحروقات والبطاقة التمويلية، الغموض في إدارة مبلغ المليار و135 مليون دولار الآتي من صندوق النقد الدولي، وملامح الإرباك الجديد في مفاوضة الصندوق. وفوق ذلك، شلل الإدارات والمصالح والأجهزة العامة، وغياب الرؤية الواضحة لمفاوضة إسرائيل في ملف الحدود البحرية.
ولكن، يقول القريبون: «نحن لسنا مصدومين. نعرف أنّ الأمور ليست سهلة. الرئيس ميقاتي ليس «سوبرمان»، والحكومة لا تدَّعي القدرة على إخراج البلد قريباً من الهوة العميقة التي استمر هبوطه فيها سنوات. لكننا في وضعية الاستنفار الأقصى، ونبحث عن أي ثغرة تسمح بخرق الجدار المسدود، وسنبدأ من أي مكان نراه مناسباً. ومن الظلم الاستعجال والقول إننا نتعثر».
في أول الطريق، أوحى وجود حكومة جديدة، يقودها ميقاتي، بوجود فرصة على الأقل للتخفيف من حدّة «الارتطام الكبير»، أو لبدء عملية العودة إلى الحياة، بعد انتخابات جرى تقديم موعدها إلى آذار. ولكن، عندما نالت الثقة، وبدأت ممارسة السلطة، وَضع الجميع أرجُلهم على أرض الواقع لتلمُّس الواقع. فالمشكلات العالقة تبدو أكبر من الحكومة ومن البلد، ولا يمكن تجاوزها بسهولة.
وأكثر العارفين بهذا الواقع هو ميقاتي نفسه. هو يدرك أنّ في الداخل منظومة مصالح معقّدة، سياسية ومالية وإدارية، تتحكّم بمسار عمله. وهذه المنظومة ترعاها القوى الإقليمية والدولية النافذة. ويستحيل تغيير المنظومة أو إضعافها أو خرق نفوذها في الداخل إلّا بموافقة خارجية.
واستطراداً، يدرك ميقاتي أنّ حكومته نفسها لم تتشكّل إلّا بعد اتفاق القوى الإقليمية والدولية، ولا سيما منها الولايات المتحدة الاميركية وإيران، بوساطة فرنسية قوية. ولذلك، هو لم يهدر الوقت. ومنذ اللحظة الأولى، بدأ نشاطه من باريس لا من بيروت أو سواها، مستنجداًَ بوساطة الرئيس إيمانويل ماكرون في كل الاتجاهات الإقليمية والدولية.
ويشبّه ديبلوماسي عتيق حكومة ميقاتي برَجُلٍ استدانَ من جهات مختلفة مبالغ كبيرة من المال ليشتري منزلاً يأويه. وعندما دخل المنزل، وجد الدائنين قد سبقوه، وأخذ كلٌّ منهم يملي عليه الشروط. فماذا سيفعل ميقاتي لإرضاء الجميع؟ وهل تتاح له التسوية التي ترضيهم جميعاً أم يبيع المنزل ليردَّ عنه شرَّ الدائنين؟
خريطة «الدائنين» في لبنان واضحة: إيرانية، أميركية، سعودية، سورية وإسرائيلية... والوسيط فرنسي، والاتكال عليه وحده.
واليوم، تدور المساومات حول 4 خطوط أساسية، وعلى حكومة ميقاتي أن تحدِّد طريقة المقاربة لكل منها وحدود التنازل، كشرط للحصول على الدعم المطلوب وفتح الأبواب للمساعدات:
1- هناك مسار المفاوضات حول سوريا، بين الرئيس بشّار الأسد والجبهة العربية التي تضمّ الأردن ومصر ودول الخليج العربي. وهذا المسار اقتصادي في الظاهر، لكنه سياسي بامتياز في العمق. وتوحي خطواته المتسارعة، خصوصاً بعد اتصال الأسد والملك عبدالله الثاني، بأنّه يتقدَّم نحو تسويات معينة. فما موقع لبنان في هذا الملف، وكيف ستتعاطى معه حكومة ميقاتي، وما حدود التنازلات المطلوبة منه اقتصادياً وسياسياً؟
2- مسار المفاوضات السعودية ـ الإيرانية التي رعى انطلاقها رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في بغداد، على مدى 4 جولات حتى الآن. وجديدُها كان إعلان وزير الخارجية السعودي، الأمير فيصل بن فرحان، عن جولة محادثات عُقدت بين مسؤولين سعوديين وإيرانيين في 21 أيلول الفائت. وهو اللقاء الأول للجانبين بعد تولّي الرئيس إبراهيم رئيسي مهماته في طهران.
فهل تبرد المواجهة الجارية حالياً بين الطرفين في اليمن ولبنان وسوريا والعراق وجبهات عربية أخرى؟ وهل سينعكس ذلك تسهيلاً لبرنامج حكومة ميقاتي وإفراجاً عن المساعدات السعودية، والخليجية عموماً؟
3- مسار المفاوضات الإميركية - الإيرانية المتوقف، وما ستقود إليه. وما انعكاس ذلك على ملفات النزاع في الشرق الأوسط ولبنان، والعقوبات الأميركية؟
4- الاتجاه الذي ستقرِّر إسرائيل سلوكه في مسألة التنقيب عن الغاز في المنطقة التي أعلن لبنان أنّها حقٌّ له، أي 2290 كلم2، ومدى حصولها على التغطية الأميركية في موقفها، واستطراداً مدى الضغط الذي ستمارسه على لبنان للتنازل.
عملياً، يدرك ميقاتي أنّ الغطاء الحقيقي لحكومته سيأتي من خلال هذه المسارات، وأنّ كل الحراك الداخلي يبقى عقيماً إذا لم تصل الملفات الساخنة المطروحة إلى التبلور، وإذا لم تُصدِر القوى النافذة المعنية بها تعليمات إلى القوى التي تغطيها في الداخل اللبناني بالتسهيل.
عند هذا المفترق، يقف ميقاتي متَّكلاً على الوساطة الفرنسية وحدها، فقط لا غير. لكن للفرنسيين حدودهم التي يعرفونها.
فهل يعاند ميقاتي وينازل الطواحين ليثبت للجميع أنّه ليس ضعيفاً كما كان حسان دياب، أو كما كان الرئيس سعد الحريري الذي أنهكه فريق رئيس الجمهورية وحلفاؤه في وضعية التكليف 9 أشهر حتى أحرجوه فأخرجوه؟
أم يُكرِّر ميقاتي نموذج دياب، فيجلس منتظراً في السرايا، من تأجيل إلى تأجيل، لعلّ الوقت يتكَّفل بولادة التسويات ووصول الضوء الأخضر من الخارج؟