في خطابه في الذكرى 34 لانطلاق حركة الجهاد الإسلامي دعا الأمين العام للحركة زياد نخالة إلى وحدة الصف الفلسطيني، والتراجع عن أوهام السلام التي اختلقها العدو الإسرائيلي، والابتعاد عن الغمغمة السياسية. وفي هذه الدعوة الأخيرة بلسم لجراح عديدة يعاني منها الشعب الفلسطيني والعربي منذ عقود لأن الغمغمة السياسية هي الحاجز الأخطر بين الحق وأصحابه وبين التاريخ الحقيقي الذي يجب أن يُدرّس للأجيال وبين ما يدرسونه اليوم من نصوص تولي اهتماماً لمشاعر أصحاب الشأن والقرار بدلاً من إيلاء الاهتمام للوطن وسلامته وتعزيز أسس قوته ومنعته.
فقد مرت منذ أيام ذكرى حرب تشرين التحريرية ولكن إلى حدّ اليوم لم تكتب حقيقة تلك الحرب ومجرياتها ولم يتم التوصل إلى الاستنتاجات العلمية المؤكدة التي تسمي الأشياء بأسمائها، رغم أن اتفاقات سيناء2 واتفاق كامب دافيد وزيارة السادات للقدس قد دكّت إسفيناً في جسد العالم العربي مازلنا نشهد ونعيش تداعياته الخطيرة على الأجيال دون أن يتمكن أحد من عكس هذا التيار والإقلاع من جديد في اتجاه مختلف مقاوم.
وفي الإطار نفسه حقق اتفاق أوسلو للعدو الصهيوني مالم يتمكن من تحقيقه خلال عقود، وأفشل ذاك الاتفاق عملية سلام كانت مبنية على أسس سليمة وبإجماع وتنسيق عربيين، ومكّن الصهاينة من خوض معركة علاقات عامة مع عشرات الدول لصالحهم وفتح الأبواب لهم من قبل بلدان لم تكن لتعترف بالكيان الصهيوني لولا الاتفاق الفلسطيني معه. ومع ذلك لا تنص الكتب المدرسية أو غيرها على حقيقة ما جرى ويجري، ولا تسمي الأشياء بأسمائها ولا توجه اللوم لمن يستحقون؛ وهنا أستذكر قول الله عز وجل: " يا أهل الكتاب لمَ تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون". ولكن هذه المرة تشملنا هذه الآية حين نغمغم ولا نفصح عن الحقيقة.
أن يلبس الحق بالباطل؛ أي أن يغمغم الحق أو أن يكتمه وكلاهما خطران على الحقيقة وقول الصدق، لأن الحقيقة هي التي تهدي إلى القرار السليم وهي التي تختصر الطرق وتستثمر الوقت بدلاً من هدره وإضاعته. أو لازال البعض يعتبر أن أشخاصاً ما وسمعتهم ومكانتهم أهم من التاريخ وأهم من الأوطان؟ لا قيمة يجب أن تعلو فوق قيمة الوطن وقول كلمة الحق من أجل مصلحة الوطن وإعلاء شأنه لأن الجميع مؤقتون وعابرون إلا الأوطان والحقائق الناصعة المرتبطة بها.
هناك من يستعرض بعض أحداث تاريخنا بصدق شفوياً،وحين نطلب منهم أن يسجّلوا ما قالوه يقول البعض منهم: لن يصدقنا أحد لأن كل ما نقرأه مخالف للحقائق التي نعرفها بعمق ونتحدث بها.
إلى متى نستمر في بيع الأوهام ونحن نشهد واقع هذه الأمة يتراجع سواء محلياً أو إقليمياً أو دولياً؟ ومتى سنمتلك الجرأة الأكيدة لنؤيد ما قاله السيد زياد نخاله أن " المشروع الرسمي الفلسطيني" وأضيفُ إليه "المشروع الرسمي العربي" أقصر من قامة الشهداء وأقلّ بكثير من تضحيات الأسرى والجرحى على امتداد أرض هذا الوطن العربي الكبير بكافة أقطاره"؟
في الوقت الذي تنشغل به معظم دول العالم بإعادة حساباتها حول موقعها الإقليمي والدولي والدور الذي يمكن لها أن تلعبه أو تطوّره في أحداث تعيد تشكيل العالم من جديد، نجد الكتلة العربية مبعثرة الجهود بين مع من يريد استبدال السيد الأمريكي بالسيد العثماني، "كالمستجير من الرمضاء بالنار"، وبين من يعقد آمالاً على الأوهام التي يسوّقها له الكيان الصهيوني فيرتمي في أحضانه سراً أو علانية غير متّغظ من مآل الأمور في دول عقدت آمالها على العلاقة مع هذا الكيان، فلم يكتفِ بالغدر بها بل سخّر كلّ علاقاته وإمكاناته ليقنع دولاً أخرى باتخاذ خطوات وبناء سدود تنغّص عليها مصدر الحياة التي ترتوي من نسغها. وبين هذا وذاك دول عربية تمتثل لقرارات هي في العمق ضدها بقدر ما هي ضدّ الأخ الشقيق لأنها تكرّس الفرقة والانقسام والعزلة في الوقت الذي يدرك أعداء العرب قبل حكام العرب أن فتح حدودهم والتعاون والتنسيق بينهم هو طريق الخلاص الوحيد لهم جميعاً.
البعض في عالمنا العربي مزهوّ بانكسار الولايات المتحدة في أفغانستان وتراجع الدور الغربي في الإقليم والعالم، بينما ما زال بعض من يراهنون على السيد الغربي يتوسّلون كلمة منه يعتقدون أنها قادرة على تغيير مصائرهم ومصائر أوطانهم وهؤلاء يذكرونني ببداية الحرب على سورية حين احتفل بعض المأجورين بدعوة أوباما للرئيس الأسد أن يرحل، معتقدين أن كلمته قدر لن يتمكن أحد من تغييره، وفي كلتا الحالتين الرهان هو على الآخر؛ إما أن ينكسر وإما أن يشكّل منفذاً ولا هو بباعث الحياة في بلداننا إن انكسر ولم ولن يشكّل منقذاً لمن لا يعمل ويضحّي ويسرع الخطا في بناء وطنه.
مع التسليم طبعاً بأنّ الغرب بعد أفغانستان ليس كما قبله، وأنّ القطب الغربي يشهد حالة تفكّك وتراجع يقابلها صعود متسارع للصين وروسيا والهند وإيران ومنظومات تفكير تؤمن بعالم متعدّد الأقطاب، وبإعادة النظر في العلاقات الدولية، وتقف ضدّ التدخّل في شؤون الدول، ومع كلّ ذلك فإنّ الوحش الغربيّ المتربّص بالعرب اليوم جاثم على الضفة الأخرى من المتوسّط، حالم بإعادة بناء الإمبراطورية العثمانية على أسس تنظيم الإخوان المسلمين للوصول إلى أهدافه. فالخطر اليوم على سورية والعراق وليبيا وتونس والجزائر وحتى مصر واليمن ودول الخليج، والخطر على إيران وأرمينيا وعدد من دول آسيا الوسطى هو الخطر العثماني الأخواني الذي يحاول مراكمة أوراقه من خلال ألاعيبه الخبيثة قبل أن تنكشف نواياه الحقيقية والخوف هو من الانتظار إلى أن تصبح نواياه واضحة للجميع فيكون قد تمدمد واحتلّ وتمركز واستخدم أدواته ضدّ البلدان والشعوب.
لقد أصبح واضحاً اليوم أنّ الخطر العثماني والخطر الإسرائيلي على أمتنا صنوان، ولكن الأخطر من كلّ شيء على هذه الأمة هو عدم وضوح الرؤية وعدم الاقتناع بأنّ عوامل القوة أو الضعف تنبع من الداخل ولا يمكن لأيّ قوّة مهما عتت أن تنال من بنيان صلب متماسك يحسن صانعوه الدفاع عنه. كما أصبح واضحاً أنّ كلّ ادعاءات العثماني بالحرص على فلسطين والذود عنها هي ادّعاءات كاذبة لذرّ الرماد في العيون، بينما يتعاون مع الصهيوني في شبكة علاقات سياسية واقتصادية وعسكرية تمتدّ من الشرق الأوسط إلى القوقاز وآسيا الوسطى.
مصيبتان كبريان في تاريخنا العربي هما الخيانة والغمغمة السياسية، والسبب الكامن وراء الاثنين هو عدم الصدق مع الذات والآخر، وعدم المكاشفة الصريحة والجرأة في إعلاء كلمة الحقّ والوطن. لا شكّ أنّ الوقت أصبح متـأخراً جداً، وأنّ إعادة البناء تتطلّب وقتاً وجهداً وتفكيراً نيّراً وغير تقليديّ، ولكن هل هناك أيّ خيار آخر متاح من أجل مستقبل أفضل لأمة تهدّدها تطوّرات الأحداث في العالم أن تبقيها خارج التاريخ؟