كان للقرار الاستراتيجي الكبير الذي اتخذته المقاومة في لبنان بمواجهة الحصار الأميركي والتصدي الاقتصادي لخطة بومبيو التدميرية، من المفاعيل ما تجاوز توقع القريب والبعيد من المتابعين بمن فيهم من اتخذ القرار نفسه.
فالمقاومة ومعها حلفاؤها وبيئتها استطاعوا أن يحولوا دون نجاح خطة بومبيو في مرحلتها الرابعة ومنعوا الانهيار الأمني ثم انقلبوا إلى معالجة ما يمكن فعله في مسألة الحصار والانهيار الاقتصادي، فضلاً عن سدّ الفراغ السياسي بتشكيل الحكومة من دون الخضوع لشروط الغرب فيها، وفي هذا السياق جاء القرار المقاوم باستجرار النفط الإيراني ليشكل ضربة توجه للحصار والإرهاب الاقتصادي الذي فرضته أميركا على لبنان والتزم بتنفيذه لبنانيون في مواقع رسمية وغير رسمية تضافرت جهودهم إلى حدّ خنق المواطن اللبناني، وكاد يقود إلى انفجار شعبي لإغراق المقاومة في وحول الداخل ثم تحميلها مسؤولية كلّ المآسي قديمها وحديثها، بغية عزلها وتفكيكها، ثم حصاد ذلك في صناديق الاقتراع المقبل لانتخاب مجلس نيابي جديد.
بيد أن المقاومة التي أدركت الخطة ومدى خبثها وحجم الإجرام في تنفيذها، أحبطت المخطط اللئيم الذي يستهدفها والذي تعدّت العناوين والأبواب فيه وخططت للمواجهة الدفاعية على وجهين أولهما الصمود والثبات على المبادئ والتمسك بمصادر القوة مع أعلى درجات اليقظة والجاهزية وعدم الانجرار إلى فتنة في الداخل أو الانزلاق إليها مهما كان حجم الاستفزاز ومهما كانت وأيّ كانت أحجام التعديات والانتهاكات، وثانيهما ممارسة الهجوم غير العسكري في معرض الدفاع بما يقفل أبواب العدوان عليها ويعطل الذرائع ويحرم المعتدي من فرص نجاحه في الوصول إلى مبتغاه.
وفي نظرة سريعة لنتائج الاستراتيجية الدفاعية التي اعتمدتها المقاومة نستطيع أن نسجل نجاحها في فرعي المواجهة دفاعاً وهجوماً، وبشكل نستطيع معه القول بأنّ المقاومة نجت من الكمائن التي نصبت لها وأربكت الخصم والعدو في أكثر من موقع وموضوع ودفعته صاغراً لمراجعة بعض تدابيره الكيدية ضدّ لبنان، وبشكل خاص في مسألة استجرار الغاز من مصر والكهرباء من الأردن وكلاهما عبر سورية، وبهذا تكون المقاومة أحدثت ثغرة واسعة في جدار الحصار الاقتصادي الذي يستهدف محور المقاومة، وبشكل خاص إيران وسورية ولبنان.
ثم كانت الموجة الثانية من الهجوم الاقتصادي والإنشائي والعمراني، موجة قادها وزير الخارجية الإيراني حسين عبد اللهيان الذي جاء إلى لبنان حاملاً معه عروضاً هامة وجدية ومغرية ينبغي منطقياً أن لا يتردّد في قبولها أو يرفضها عاقل أو حريص على نفسه ووطنه وشعبه.
لقد جاءت العروض الإيرانية في أبواب الاقتصاد وإنشاء البنى التحتية التي تؤمّن سلعة أو خدمة استراتيجية وتوفر الأموال وتمنع من هدرها، ثم تعطي دفعاً لعجلة الاقتصاد اللبناني بعد الانهيار الذي أصابه بنتيجة الفساد في الداخل والحصار الأميركي من الخارج.
وعليه فإنّ العرض الإيراني المتضمّن إنشاء معملي توليد الطاقة الكهربائية بقدرة 2000 ميغاوات (أيّ 70 في المئة من احتياجات لبنان من الطاقة الكهربائية) يؤمّن للبنان مع تشغيل ما لديه اليوم من معامل متعثرة، يؤمّن طاقة كهربائية على مدار الساعة 24\24 ساعة ولكلّ المناطق ولكلّ القطاعات، وتقفل أبواب الاستغلال وهدر الأموال والابتزاز ويوصد باب السمسرة والفساد المشهور في قطاع الكهرباء، يتأمّن كلّ ذلك من دون أن تتحمّل الخزينة اللبنانية نفقة قرش واحد لأنّ العرض جاء بصيغة BOT، حيث تتولى إيران عمليات التمويل والبناء والتشغيل ثم تعيد المنشآت للدولة في نهاية العقد من دون كلفة.
أما العرض الثاني المتعلق ببناء شبكة مواصلات حديثة من مترو في المدن وقطارات كهربائية أو تعمل على النفط بين المناطق، فإنّ في إنجازه حلاً لمشكلة النقل وكلفته العالية وحلاً لمشكلة السير وزحمته في المدن أو على أبوابها ومداخلها فضلاً عن مخاطر السير وحوادثه.
وفي الثالث الذي يعني مرفأ بيروت فإنّ العرض الإيراني السخي بإعادة ترميم المرفأ وإعادة تشغيله بطريقة عصرية تسمح للمرفأ العودة للمنافسة الراجحة لصالح لبنان واستعادة موقعه في الحركة الاقتصادية المشرقية، وبخاصة في فترة التهيؤ لإطلاق عملية إعادة إعمار سورية، العملية التي ستوفر لمن يحظى بفرصة المشاركة أو المساهمة فيها الكثير الكثير من المكاسب والمنافع.
ومع سخاء العروض الإيرانية وجديتها والجاهزية لتنفيذها، نجد لبنان الرسمي وبعض الشرائح الشعبية يعرضون عنها ويمارسون الرفض الكيدي لها رفضاً يؤذي صاحبه قبل أيّ شيء، والأخطر في الأمر أن من يرفض لا يقدّم البديل ويأتي رفضه بدافع أو أكثر من ثلاثة هي الخوف من أميركا التي لا تتقبّل فكرة دخول إيران إلى النسيج الاقتصادي والعمراني اللبناني، والثاني حرصاً على مصالح مافيات المحروقات ومولدات الكهرباء ومحافظة على مزاريب الهدر وسرقة المال العام، أما الثالث فيتجسّد بحقد وكراهية تمارس ضدّ المقاومة ومحور المقاومة الذي أفشل خطط وضع اليد الأجنبية على المنطقة وخط الطريق لبناء شرق أوسط لأهله على أنقاض مشروع استعماري يتمثل بشرق أوسط أميركي.
ومع هذا الرفض الكيدي الذي تمليه أميركا على لبنان، مترافقاً مع حصار أميركي مفروض منذ سنوات بقصد التجويع للتركيع يكون اللبناني أمام واقع عليه أن يختار فيه بين أن يكون وقوداً في حروب وصراعات يفجرها الغرب خدمة لمصالحه ولـ «إسرائيل»، أو أن يكون حراً سيداً يعرف كيف يمارس حقوقه ويستعمل طاقاته صيانة لتلك الحقوق وعلى رأسها السيادة والاستقلال والعيش الكريم.
وإذا اختار بعض اللبنانيين النهج الأول وارتضوا أن يكونوا سدنة في محراب المصالح الاستعمارية والصهيونية من دون أيّ اهتمام بمصالحهم الوطنية ومصالح أشقائهم وشركائهم في المواطنية فإنّ أحداً لا يلزم ولا يمكنه أن يفرض على الجناح اللبناني الآخر أيّ الفريق المقاوم للهيمنة الأجنبية أن يهدر مصالحه ويرضى بشظف العيش وطوابير الذل كرمى لعيون الغرب و«إسرائيل»، وهنا سيكون لبنان أمام اختبار جديد يفرض الاختيار الاستراتيجي بين الوضعين وستكون الانتخابات النيابية المحطة الرئيسة في هذا الاختبار لنرى أي أكثرية نيابية سيختار الشعب اللبناني، وهل ستكون أكثرية تعمل بالإملاء والقرار الأميركي وأكثرية وطنية ترفض التبعية، أكثرية ذات خيارات سيادية استقلالية؟
ولأنّ الأمر كذلك وعلى رغم أن تجارب الانتخابات في لبنان ليست مشجعة على القول بأنّ هذه الانتخابات تفضي إلى نتائج تعكس حقيقة الإرادة الشعبية الصحيحة والحقيقية، وعلى رغم ما يخشى اللجوء إليه في الانتخابات المقبلة من ضغوط ومؤثرات في العملية الانتخابية، على رغم كلّ ذلك نرانا ملزمين بالتعويل على تلك الانتخابات التي يبدو أن الغرب يعد العدة لها بقيادة أميركية لامتلاك الأكثرية التي تغنيه عن مواجهة المقاومة عسكرياً في الميدان وتحول دون انفتاح لبنان على عمقه الاستراتيجي المشرقي بدءاً بسورية.