طغت الأحداث الأمنيّة الدمويّة والمأساويّة التي شهدتها منطقة الطيّونة ومحيطها خلال الساعات الماضية، على التطوّرات السياسيّة والقضائيّة الخطيرة التي شهدها لبنان ككلّ خلال الأيّام القليلة الماضية. ومشاهد الموت وأزيز الرصاص وحتى دويّ القذائف أعاد اللبنانيّين إلى زمن الحرب البشعة، وأنساهم أساس المُشكلة التي تتمثّل في عجز القضاء اللبناني عن حسم أمره في أيّ من الجرائم الكبرى، بسبب التدخّلات السياسيّة وبفعل طغيان الواقع الطائفي المُدجّج بالسلاح على منطق الدولة والقانون.
وفي إنتظار أن تكشف التحقيقات ما جرى في منطقة الطيّونة ومحيطها بالتفاصيل، لا بُدّ من الإشارة إلى أنّ البلد يعيش حاليًا حالاً من الغليان، بسبب تحريض مُتبادل إنخرطت فيه أحزاب وقيادات ومسؤولين، إلخ. وذلك في ضوء الإنقسام العامودي بشأن تحقيقات المُحقّق العدلي طارق البيطار في جريمة إنفجار المرفأ الكبرى.
فمن جهة، يُوجد فريق "الثنائي الشيعي" ومن يُؤيّده، والذي يدعو إلى تنحّي القاضي البيطار عن هذا الملفّ، بحجّة إنخراطه في مشروع سياسي مشبوه، يأتي إستكمالاً للمشروع الأميركي الذي يُحاصر "محور المقاومة"، في حين يُوجد فريق مُقابل يضم مجموعات سياسيّة منوّعة وحتى غير موحّدة، تدعم القاضي العدلي، بإعتبار أنّه يُمثّل موقعًا شرعيًا معنويًا سيؤدّي سُقوطه إلى سُقوط أيّ أمل بأي مُحاكمة وبأي تطبيق للقانون، وحتى بسقوط هيبة الدولة والشرعيّة اللبنانيّة ككلّ.
وبالتالي إذا كانت الأنظار شاخصة حاليًا لمعرفة كيف ستنتهي ذيول أحداث الطيّونة الأخيرة، والتي كادت أن تدفع لبنان إلى فتنة كبيرة، لولا يقظة الجيش اللبناني وجهوده، فإنّ الأنظار شاخصة أيضًا على قضيّة لا تقلّ أهميّة تتمثّل في معرفة نهاية المُحاولات الحاليّة التي يقودها "حزب الله" لسحب تحقيقات إنفجار الرابع من آب من يد المُحقّق العدلي البيطار. وإذا كانت أحداث الطيّونة فجّرت قلوبًا مليانة بين مُناصري "الثنائي الشيعي" ومُناصري الأحزاب اليمينيّة المسيحيّة بشكل خاص، فإنّ قضيّة القاضي البيطار شكّلت هزّة سياسيّة كبيرة ضربت التحالف بين "التيّار الوطني الحُرّ" و"حزب الله". وإذا كان صحيحًا أنّ هذا الأخير مُصرّ على إقالة القاضي البيطار، فإنّ "التيّار" يُعارض هذا الأمر، خاصة في حال لم تحصل الإقالة بالوسائل القانونيّة. ويُواجه "التيّار" أكثر من مُشكلة في حال الرضوخ للضُغوط التي تُطالب بإقالة المُحقّق العدلي، تبدأ برفض تخطّي الوسائل القانونيّة في مسألة بيد القضاء، وتمرّ بعدم الرغبة بإغضاب المُجتمع الدَولي الذي يُراقب ما يحصل في هذا الملفّ عن كثب، ولا تنتهي عند الخشية من إستغلال هذه القضيّة للتصويب على "التيّار" من قبل خُصومه السياسيّين، خلال الحملات الإنتخابيّة المُرتقبة في الأشهر القليلة المُقبلة.
ومهما سيكون المخرج القانوني الذي يسعى أكثر من طرف لإيجاده، لتنحية القاضي البيطار عن الملف بأقلّ أضرار معنويّة مُمكنة، فإنّ هذه القضيّة ستكون مع غيرها، محطّ شدّ حبال كبير في المرحلة المُقبلة، سيُستخدم بالتأكيد في الصراع السياسي القائم. والإنقسام لا يقتصر على النظرة إلى جريمة إنفجار المرفأ، وإلى التحقيقات بشأنها، بل يشمل عشرات الجرائم التي حصلت في العقدين الأخيرين، ويشمل أيضًا موقع لبنان السياسي في المنطقة والعالم، ويشمل كذلك الأمر الخلاف الكبير على دور "حزب الله" في الداخل اللبناني، وعلى سلاحه وعلى مُشاركته في حروب وخلافات إقليميّة عدّة. وما حصل في منطقة الطيّونة ومحيطها يحمل في خلفيّاته كل ما سبق، وهذه الأمور العالقة لن تنتهِ في المُستقبل القريب، بل هي مُرشّحة للإستمرار وحتى للإشتداد في المرحلة المُقبلة.
وفي الختام، يُمكن القول إنّ ما حدث ويحدث وربما ما سيحدث في المُستقبل أيضًا، ينطبق عليه القول اللبناني العاميّ الشائع "القصّة مِش قصّة رمّانة... القصّة قصّةّ قلوب مليانة" بغضّ النظر عن المنطقة الجغرافيّة التي تفجّرت فيها هذه القلوب، أكانت عين الرمّانة أم الطيّونة أم بدارو أم أي منطقة أخرى!.