منصبان يوليهما وسائل الاعلام والرأي العام اهتماما خاصا في لبنان على عكس غالبية باقي الدول: قيادة الجيش ورئاسة الجامعة اللبنانية. ومن الطبيعي أن يكون منصب قائد الجيش أساسيا في الدول غير المستقرة، وأن تبقى الأنظار شاخصة اليه، كما هي الحال في لبنان. لكن ما الذي يجعل أن يصبح منصب رئيس الجامعة اللبنانية متصدراً اهتمامات الطبقة السياسية ووسائل الاعلام، بينما الجامعة بذاتها لا تلقى منهم أي اهتمام!!
تشكّل الجامعة اللبنانية، وهي الجامعة الرسمية الوحيدة في لبنان، الملاذ لغالبية اللبنانيين، تقدّم لهم التعليم العالي المجاني، وتفتح لهم باب الترقّي الاجتماعي، وتؤمّن توازن الفرص بين الشباب اللبناني على تنوّع مستوياتهم ومشاربهم. وهي خرّجت حوالى 400 الف طالب ساهموا في إنماء وطنهم والدول العربية بشكل خاص، كما انهم المساهمون الرئيسيون في الدخل القومي سواء من عملهم في الداخل أو في بلدان الاغتراب.
وقد حافظت الجامعة، رغم كل الصعوبات، على مستوى تعليمي عال بشهادة سوق العمل الذي يفتّش عن خرّيجيها لتوظيفهم، وبشهادة الجامعات العالمية التي تستقبل طلابها في الدراسات المتخصصة، في الوقت الذي تعاني فيه هذه الجامعة إجحافاً من جانب السلطات اللبنانية التي تقتطع كل عام جزءاً من موازنتها، وتحرم طلابها من المنح، وتترك غالبية فروعها مشتتة في أبنية سكنية مستأجرة، فيما مختبراتها وتجهيزاتها تشكو نقص التمويل. وقد باتت موازنتها فقيرة الى درجة انها لا تكفي لحاجاتها التشغيلية البسيطة. وان استطاعت الجامعة الاستمرار والتفوق فذلك عائد الى طلابها العصاميين الذين يكدّون ويتحمّلون الكثير لتحقيق طموحاتهم، والى أساتذتها المتفانين الحريصين على مؤسستهم رغم ظروف عمل صعبة ومجحفة، ليس أقلها عقود العمل بالساعة والرواتب المنخفضة.
يأتي اهتمام الطبقة السياسية واحزابها برئاسة الجامعة وبتعيين باقي القيّمين عليها لأن في ذلك مصلحة لهذه الطبقة في جعل هذه المؤسسة امتدادا لنفوذها، وبابا للتوظيف، وميدان نشاط محازبيها. فالجامعة تعدّ أكثر من ثمانين الف طالب واكثر من ستة آلاف أستاذ وآلاف الموظفين والمتعاقدين والمدرّبين، وتشكّل بالتالي أرضيّة حزبية خصبة وباباً لتوظيف المحاسيب في كل الميادين. لذلك تتنافس الأحزاب على امتلاك القرار في داخلها من دون النظر الى مصلحة الجامعة في أن تكون صرحا علميا رائدا بعيدا من التجاذب السياسي والطائفي. وبالتالي، لا تولي هذه الاحزاب أي اهتمام لحاجات الجامعة ومتطلبات تطويرها.
وعند كل استحقاق لتعيين رئيس لها او عمداء أو مدراء للفروع، تتسابق الأحزاب على تعيين أشخاص مقرّبين منها قبل النظر الى كفاءاتهم أو مدى عطائهم العلمي والاكاديمي، لأنها تسعى الى الاستفادة ممن تعيّنهم بهدف زيادة وضع اليد على القرار في داخل المؤسسة وخدمة مصالحها. وهكذا يخضع تعيين رئيس الجامعة لمحاصصة طائفية وحزبية، وكذلك تعيين العمداء فتتقاسمها الاحزاب حصصاً. كما حصل أن تمّ تعيين أساتذة لا يستوفون الشروط. فعندما يصبح المسؤول في الجامعة مَديناً في تعيينه لمرجعية سياسية يصعب عليه لاحقا رفض طلباتها ويحرص على المطالبة بحصص لها.
الى حالة وضع اليد على قرارها، تعاني الجامعة اهمالا طويلا متراكما جعلها تخسر نسبة كبيرة من طلاب التعليم العالي، فهي تعدّ اليوم 35 % من طلاب التعليم العالي، بينما كانوا في الماضي في حدود 60 %. كما شهدت تراجعا في السنوات الاخيرة لناحية التجهيزات واللوجستية بسبب تراجع موازنتها. أضف الى ذلك أن غالبية مقرّات فروعها في المناطق ما تزال أبنية سكنية مستأجرة لا تليق بها.
لا يمكن للجامعة الوطنية أن تنمو وتتطور في ظل وضعها الحالي، فهي تعاني أيضا حال ترهّل وتحتاج الى تغيير بنيوي يطال قوانينها وهيكليتها اذ ان قانون الجامعة يعود الى العام 1967، وهو يصلح لجامعة مركزية صغيرة فيما لا يصلح لجامعة باتت على مساحة الوطن ولها حوالى الـ60 فرعا ومركزا في مختلف المناطق ويقارب عدد «أهلها» 100 الف شخص. فقانونها المركزي يحتّم أن تذهب المعاملات الادارية بأكملها الى الادارة المركزية في بيروت، وأن تصبّ كلها على مكتب رئيسها الذي يغرق بالاوراق ويمضي ساعات لتوقيعها مع استحالة الاطلاع عليها بالتفصيل.
وغالبا ما يعمل الرئيس منفردا، لا نواب للرئيس، ولا مساعدين مباشرين. ويفترض أن يعاونه مجلس جامعة يضمّ عمداء الكليات واساتذة منتخبون. لكنه مجلس من 39 شخصا لا يصلح لقيادة جماعية. فتبقى الجامعة في ادارة شخص واحد من دون رؤية ولا مخطط مستقبليا، علماً أنه ما زال غارقا في الروتين الاداري.
انها البيروقراطية الثقيلة، انها المركزية الخانقة، اذ تمضي المعاملات اسابيع وأشهرا لتنتقل بين مكتب واخر. ولقد فشلت المحاولات المتواضعة لمَكننة هذه المعاملات وما زالت حتى الان تتنقل بين الفروع َوَرَقياً في حقائب ينقلها سُعاة البريد. هذا على رغم وجود نظام معلوماتية في الجامعة متطور جدا (بانر)، لكن الادارة لا تستخدم الا الجزء البسيط منه. وفي بعض المرات تتحاشى ارادياً استخدامه كي لا يكشف «التشعيب» الوهمي وتنفيعات أخرى.
باب آخر من قوانين الجامعة أسقطته الممارسات الخاطئة وهو قانون التفرغ، على رغم أهميته في رفع مستوى التعليم واداء الاستاذ. لقد بات اليوم بحكم الساقط بعدما عاد اساتذة كلية الحقوق الى ممارسة المحاماة، واساتذة كلية طب الاسنان الى عياداتهم، واساتذة كلية الفنون الى مكاتبهم ومحترفاتهم... وخرق قانون التفرغ، الذي يَغضّ القيّمون على الجامعة الطرف عنه، يهدّد مستوى الجامعة، وهو أيضا يستوجِب تطبيقه أو تطويره.
ملفات التعثّر والمحاصصة والاخطاء الادارية كثيرة في المؤسسة، ولم يعد مسموحا السير فيها «على البَقبشة». لقد آن الاوان لوضع رؤية لهذه الجامعة العريقة وتصويب مسارها، وتحريرها من وضع اليد السياسية والطائفية، واعادة القرار الاكاديمي لها، وبناء المجمّعات اللائقة بها، ومنحها قانونا عصريا يحررها من مركزيتها المميتة ومن بيروقراطيتها الادارية الخانقة. انها صرح اساسي في تأهيل شباب لبنان واندماجهم وفي بناء الوطن، ويجب الدفاع عنه والحفاظ عليه.