بلغ التحقيق الذي يقوده المحقق العدلي لدى المجلس العدلي الذي أحال إليه مجلس الوزراء حادث/ جريمة الانفجار الذي دمّر مرفأ بيروت في 4 آب/ أغسطس 2020، بلغ هذا التحقيق درجة بات يُخشى معها على الوضع الأمني والسياسي في لبنان برمّته، وللتذكير فقط نقول أن القانون الجنائي اللبناني لحظ إمكان إحالة بعض الجرائم على المجلس العدلي إذا رأى فيها قدراً من الخطورة يمسّ الأمن القومي العام ويعرّض السلم الأهلي لخطر كبير.
فالمجلس العدلي في تركيبته وفي أصول المحاكمات لديه يتميّز بوضع استثنائي خاص يوسع صلاحياته ويحصن أعماله وممارسته إلى الحدّ الذي يخرجه من دوائر المراقبة ويمنع المراجعة بأحكامه، فيجعل المحقق العدلي لديه بمنأى عن أيّ مساءلة أو أي مراجعة لقراراته إلى حد لا يشبهه أحد في كامل المنظومة القضائية اللبنانية، ويجعل من قراراته وأحكامه مبرمة فور النطق بها، ولا تقبل أي مراجعة. وفي هذا كما نرى عيباً في التشريع ارتكبه المشترع عن قصد أو غير قصد، لكنه قبل باستمراره من أجل خدمة السلم الأهلي والأمن القومي، أي ضحى المشترع ببعض المبادئ والحقوق من أجل الأمن والسلم الأهلي العام.
لقد استفاد المحقق العدلي من هذا القصور التشريعي واستفاد من خلو التشريع من أيّ نص يجيز مراقبة أعماله أو حتى تعيين المرجع القضائي الصالح للنظر بدعاوى ردّه أو نقل الدعوى أو سحبها من بين يديه، وأباح لنفسه التصرف باستنسابية ومزاجية أثارت الريبة والشكّ به وبأهدافه أفقدته الثقة بشخصه وبنزاهته وبحياده وموضوعيته وجعلت الارتياب به هو الحاكم، ودفع المرتابين به إلى الاعتقاد بأنّ القاضي يعمل وفقاً لخطة أجنبية تستهدف المقاومة ظلماً وعدواناً، بخاصة أنه اتصل بعلمهم بعض من اتصالات وسلوكيات هذا القاضي وعلاقاته بسفارات أجنبية تريد شراً بالمقاومة، وعزز هذا الظن قيام الكونغرس الأميركي باتخاذ القرارات وإصدار البيانات التي تزكي وتمدح هذا القاضي ومواقف أميركية أخرى تحذر من المسّ به.
أمام هذا الواقع ومع إمعان المحقق بالتصرف الذي فيه قدر من التحدي والتصعيد من دون الأخذ بهواجس المرتابين وجد هؤلاء أنفسهم وبشكل ملحّ وعلى سبيل وقائي واستباقي ملزمين بالتحرك لمنع هذا القاضي من الاستمرار في عمله بشكل استنسابي يبعد التحقيق عن كشف الحقيقة، ورأوا أن الحلّ الأفضل لوضعه وخدمة للحقيقة يتمثل بتغيير القاضي وتعيين بديل له يكون أفضل استقلالية وأكثر حرفية ومهنية وأشدّ تمسّكاً بقواعد العدالة وحرصاً على كشف الحقيقة.
بيد أن مسألة استبدال القاضي المحقق العدلي اصطدمت بعقبتين الأولى رفض طرف داخلي لمبدأ التغيير مشجعاً من الجهات الخارجية التي ترفضه أيضاً والتي تهدّد لبنان والمسؤولين فيه إن أقدموا عليه، والثانية عدم وجود النص القانوني الذي يحدّد الجهة الصالحة لاتخاذ القرار بتنحية القاضي المحقق العدلي.
ومع انسداد الطريق القانوني الرسمي والقضائي الأصولي اتجهت القوى المشككة والمعترضة والمرتابة بسلوك القاضي المحقق العدلي، للاعتراض والتعبير عنه في الشارع عبر نخب من محامين ومهندسين وطلاب جامعات انتظموا في تظاهرة سلمية باتجاه قصر العدل للتعبير عن رأيهم بأداء القاضي المحقق العدلي والمطالبة بتصحيح المسار بدءاً بتغييره، لكن المفاجأة الكبرى كانت في الاعتداء المسلح الذي تعرّضت له التظاهرة السلمية التي قام بها مدنيون عزل، اعتداء أدّى إلى سقوط شهداء وجرحى من المتظاهرين، وهنا فتحت أبواب احتمالات جديدة تنذر بأبشع الاحتمالات.
لقد أطلق قناصون محترفون ومنتشرون مسبقاً النار على التظاهرة السلمية تنفيذاً لخطة محكمة كما يبدو تعيد التذكير بخطة بومبيو الموضوعة لتدمير لبنان وفقاً لمراحلها الخمس، الخطة التي ظننّا أن أميركا جمّدت العمل بها يوم «سمحت» بتشكيل الحكومة التي سدّت الفراغ السياسي الذي هو أوّل خطوة فيها، لكن يبدو أن الخطة لا تزال قيد التنفيذ، وأنّ لبنان لا يستطيع أن يطمئن للسلوك الأميركي ما يفرض الآن مواجهة الموقف بشجاعة وطنية تجنّب لبنان الانهيار والدمار، وعليه نرى أنه بات مطلوباً اليوم من الدولة بأجهزتها كلها وكلّ في نطاق صلاحياته اتخاذ تدابير ملحّين لمنع استشراد الفتنة:
الأول: معالجة الوضع الميداني بشكل حاسم وسريع ومنع استمرار عمليات القنص والانتشار المسلح في منطقة عين الرمانة، والعمل على إلقاء القبض على المسلحين وسوْقهم إلى العدالة، ويجب استعمال أقصى ما يملك الجيش من طاقات خلال الساعات المقبلة لأنّ أيّ تأخير في المعالجة يعقد في المواقف.
الثاني: العمل بمنطق مصلحة الدولة العليا “raison d etat“، وحسم وضع المحقق العدلي طارق البيطار واعتبار استمراره في مهمته عاملاً مخلاً بالأمن ومزعزعاً للاستقرار أيّ نقيضاً للهدف الذي يُرجى من إحالة القضية إلى المجلس العدلي، وعليه ينبغي نقل المهمة إلى سواه سواء بمبادرة منه هو شخصياً بإعلان التنحّي أو بقرار من وزير العدل بالتنسيق مع مجلس القضاء الأعلى، أو عبر التفتيش القضائي الذي يمكنه التوصية بكفّ يده بسبب ما ارتكب من تجاوزات، أو عبر مجلس الوزراء الذي يمكنه سحب القضية من المجلس العدلي وإحالتها إلى القضاء العسكري المرجع القضائي الصالح لها أساساً… وفي كلّ الحالات ينبغي أن يتذكر كلّ مسؤول بالملف أن كشف الحقيقة هو لتحصين الأمن وردع المرتكب أو المقصر ومعاقبته ولا يكون القضاء لتفجير الوضع.مقالات ذات صلة