بعد عامين على انطلاق انتفاضة السابع عشر من تشرين الأول في العام 2019، تُطرح الكثير من الأسئلة حول ما حققته، خصوصاً أن هناك من يحمّلها المسؤولية عن الانهيار المالي والاقتصادي الذي حصل في البلد، حيث يعتبر الكثيرون أنه كان من الأفضل لو أن المواطنين وافقوا على دفع الضرائب، التي كانت حكومة سعد الحريري تنوي فرضها، بدل الخروج إلى الشوارع للمطالبة بإسقاط الطبقة السياسية برمّتها.
منذ ذلك الوقت، تنظر العديد من القوى السياسية إلى تلك الانتفاضة على أساس أنها مؤامرة خارجيّة، كان يُراد من خلالها قلب موازين القوى في البلاد، بينما هناك من سعى إلى ركوب موجتها لاستغلال حالة الغضب التي لدى غالبية اللبنانيين من أداء الطبقة السياسية، التي يجمع الجميع على أنها فاسدة.
بعد عامين على تلك الانتفاضة، قد يكون الفشل الأساسي الذي مُنيت به هو العجز عن انتاج جبهة سياسية قادرة على حجز موقع لها في المعادلة، على الأقل في الانتخابات النيابية المقبلة، الأمر الذي قد تكون ساهمت فيه العديد من العوامل الخارجة عن إرادتها، أبرزها انتشار فيروس كورونا المستجد في البلاد، الذي حال دون استمرار تحرّكاتها، بالإضافة إلى التدّخلات الخارجيّة التي سعت إلى تصويرها على أساس أنها موجّهة ضد فئة دون سواها، لكن من الناحية العمليّة، يمكن الجزم بأن غالبية المجموعات التي أفرزتها عادت إلى الانقسام حول نفسها، بسبب العناوين السياسية الخلافيّة.
هنا، قد يكون من المفيد الإشارة إلى أن تلك المجموعات كانت، منذ اليوم الأول، ترفض الذهاب إلى وضع برنامج سياسي تنتج عنه قيادة موحدة، الأمر الذي قاد إلى دخول العديد من القوى السياسية الساعية إلى الاستثمار على الخط، وتلك القوى، بما تمتلكه من قدرات وخبرات، نجحت في تصوير نفسها على أساس أنّها المقرّر الأساسي عن الجماهير التي خرجت إلى الشارع منتفضة، حتى باتت اليوم تضع المعايير التي يتمّ على أساسها بناء التحالفات التي ستخوض الانتخابات النيابية، باسم "الثورة" أو "الانتفاضة".
وفي حين نجحت معظم القوى السياسية في الاستفادة من الانهيار الاقتصادي والمالي، الذي تفاقم على مدى العامين الماضيين، مقدّمة نفسها على أساس أنها الوحيدة القادرة على الوقوف إلى جانب المواطنين في الأزمة التي تتحمل هي نفسها المسؤولية عنها، تؤكد المواقف، التي تعبّر عنها تلك القوى، رغم الخلافات العميقة في ما بينها، أنها لا تزال تخشى من قدرتها على التعبير عن نفسها في صناديق الاقتراع، الأمر الذي دفعها، في الأشهر الماضية، إلى شنّ هجمات متوالية عليها، من خلال اتّهامها بالحصول على المساعدات من الخارج، بينما الجميع يعلم أن تلك القوى تعتمد في تمويلها، منذ سنوات، على ما يأتيها من الخارج من أموال.
من حيث المبدأ، النجاح الأساسي الذي حقّقته انتفاضة السابع عشر من تشرين الأول 2019 هو أنها ساهمت في تعرية الطبقة السياسية إلى الحدود القصوى، حيث ظهرت في أبشع صورها لا سيما في مراحل تأليف الحكومات، فيكفي التذكير بأنها في كل مرة كانت مُصرّة على الاستمرار في سياسة التعطيل وتقاسم الحصص حتى النهاية، الأمر الذي وصل إلى مداه الأقصى قبل ولادة الحكومة الحاليّة برئاسة نجيب ميقاتي، بدل أن يكون تفكيرهه هو بالبحث عن المشاكل في المشاريع والبرامج التي تخرج البلاد من الواقع الذي تمر به، من دون تجاهل طريقة تعاملها مع جريمة مرفأ بيروت.
بالإضافة إلى تعريتها الطبقة السياسية، التي أثبتت أنّها لا تمانع جرّ البلاد إلى الحرب من جديد لتحقيق مصالحها، نجحت انتفاضة السابع عشر من تشرين الأول، ولو بطريقة غير مباشرة، في تعرية مختلف الكارتيلات الماليّة والاقتصاديّة، التي عملت على استغلال الأزمة بأبشع الصور بدل أن تقف إلى جانب شعبها، حيث عملت على اذلال المواطنين في كافّة المجالات، بدءًا من حجز أموالهم في المصارف فيما هم يهرّبونها، ودفعهم إلى الوقوف ساعات أمام محطّات المحروقات لملء خزانات سياراتهم بالوقود، وابتزازهم في رغيف الخبز ومختلف السلع الغذائيّة، وصولاً إلى قَطْعِ الأدوية وحليب الأطفال عنهم، وكأنّها ليست إلا مجموعة من العصابات التي تخطف أشخاص للمساومة عليهم.
تلك الكارتيلات أو العصابات ساهمت، بالإضافة إلى الطبقة السياسية، في تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعيّة إلى هذه الحدود، حتى باتت رواتب الموظفين لا تكفيهم بدل نقل للوصول إلى أماكن عملهم، في حين أنّ مجلس النواب، بكافّة كتله، هو الذي عجز عن أخذ الاجراءات الكفيلة بحماية من يمثّلهم، أبرزها قد يكون قانون الكابيتال كونترول، الذي كان من المفترض أن يقرّ في الأيام الأولى، لمنع تهريب الأموال إلى الخارج، لا الاستمرار في المماطلة حتى اليوم، في حين أن المواطنين يعجزون عن الحصول على أموالهم بسبب الاجراءات المصرفيّة المعتمدة.
في المحصّلة، المواطنون اللبنانيون سيكونون في الأشهر المقبلة أمام استحقاق الانتخابات النّيابية، التي من المفترض أن يثبتوا فيها أنهم قد تعلّموا من دروس الماضي في اختيار ممثّليهم، على أمل ألاّ تقود تلك الانتخابات إلى تعريتهم أيضاً، عبر تجديدهم للطبقة السياسية نفسها، التي أوصلتهم إلى ما هم عليه اليوم، من خلال سرقة أموالهم وتدمير عاصمتهم وتهديدهم بالأمن عبر الذهاب إلى الحرب في كلّ لحظة.