تندرج كل عناوين لبنان في الخانات الطائفية. ويخضع كل اللبنانيين، فرضاً وظُلماً، لتلك المقاييس التي تكبّل الإنسان، وتمنع عنه المواطنية، وتُجهض أيّ مدنية مُحتملة في بلد إنتقل منذ زمن طويل تدريجياً من طوائفية المجتمع الى طائفية الدولة. ومما زاد في الإنعكاسات الطائفية هو خطاب القوى التي كرّست مبدأ: كلما رفعنا "دوز" الخطاب الطائفي كلما كسبنا، وارتفعت أعداد مقاعدنا النيابية، وثبّتنا مواقعنا السياسية في النظام القائم.
بات هذا هو المفهوم السائد في لبنان، الذي قضى على آخر آمال بناء الدولة. ومن هنا، باتت المكونات الطوائفية ترتبط بزعمائها الطائفيين بشكل رئيسي، وغاب الوجود الفاعل للأحزاب المدنية والعلمانية العابرة لحدود الطوائف.
كان المسلمون السنّة في لبنان يشكّلون طائفة العروبة. يُمكن استحضار نضالاتهم وسياساتهم وتوجهات أحزابهم واحلافهم وخطاباتهم، من عرسال على حدود لبنان الشرقية، إلى المناطق الشمالية في عكار وطرابلس، والبقاع الأوسط والغربي، إلى كفرشوبا وشبعا، ثم إلى صيدا وإقليم الخرّوب في الشوف، وصولاً إلى بيروت. تدريجياً، وجد معظمهم كما غيرهم، في مستنقع مذهبي، تمّ تحضيره، ورمي الناس فيه، وتركهم من دون قوارب الإنقاذ.
ماذا بعد؟ لم يستطع سنّة لبنان لا العوم ولا السباحة في ذاك المستنقع. سرعان ما سقطت كل مشاريع التطرف التي ارادت سوق السنّة إلى مساحة التشدد: أين المجموعات المتطرفة حالياً؟ أين رموزها؟ ماذا أنتج مشروعها وخطابها؟ لا وجود لتلك المجموعات في حسابات الناس. لكن السنّة في البلد ضائعون حالياً، في ظل كباش سياسي وخطابات طائفية تتنازع في لبنان. أظهرت نتائج إستطلاع للرأي أُجري في إحدى الدوائر الإنتخابية أن معظم الناخبين السنّة، دون غيرهم، لم يحددوا موقفهم، لسبب رئيسي: لا خيارات أمامهم. يغيب رئيس الحكومة السابق سعد الحريري عن الواجهة السياسية حالياً، في وقت لا يتقدّم أحد غيره خارج حدود منطقته الجغرافية. هل يخطو رئيس الحكومة نجيب ميقاتي في زعامته خارج طرابلس والشمال؟.
هو سؤال يحضر في جلسات المعنيين، من دون جواب واضح. كل المؤشرات توحي أن ميقاتي يتصرّف لبنانياً على اساس أنّه رئيس حكومة، وليس على قاعدة زعامة سنّية، غير أنّ ذلك لا ينطبق في حساباته على طرابلس والشمال-منطلق ومحور قاعدته الشعبية. فهل يُخطط رئيس "العزم" على توسيع تياره نحو بيروت والبقاع واقليم الخروب والجنوب؟ لا يُظهر ميقاتي نيّة ولا رغبة، علماً أن تقدّمه سيكون أسهل الآن، بعدما بات الطريق سهل أمام تياره في حال العزم، نتيجة تراجع تيارات سياسية اخرى في الساحة السنّية، كالتيار الأزرق، وعدم قدرة البدائل المطروحة على التمدّد الذي يطمحون إليه. فقد بدا لمركز الإستشراف الإقليمي للمعلومات الذي اجرى دراسته الاستطلاعية في الشوف منذ أيام، ألا وجود لحالة بهاء الحريري ولا غيره. لا يزال حوالي ١٦٪ من الناخبين السنّة يؤيدون "المستقبل"، لكن أعداداً كبيرة من مؤيدي التيار الازرق سابقاً، نزحوا نحو "المجتمع المدني" أو هم تائهون لا يجدون مساحة سياسية آمنة وموثوق بها لوضع ثقتهم فيها، خصوصاً في ظل ابتعاد السعودية والامارات عن رعاية كانت متوافرة سابقاً لهؤلاء.
يشكّل الإقليم نموذجاً ينطبق على بيروت والبقاع وغيره، ويمكن استثناء طرابلس وجوارها بسبب وجود ميقاتي، وعودة عكاريين إلى ترتيب العلاقة مع السوريين بعد سنوات من الجفاء والقطيعة.
تُظهر ارقام الاستطلاعات والوقائع أنّ هناك ضياعاً سنّياً لم يسبق له مثيل منذ اتفاق الطائف حتى الآن، فمن يتقدّم لملء فراغات سياسية في الساحة السنّية؟ فلننتظر.