كان من المنطقي ان تستفيق مخاوف اللبنانيين من استعادة الحرب الاهلية وأهوالها، فالمكان قريب جداً من حيث انطلقت شرارة الحرب في نيسان 1975، وهذا الشارع بالذات ما زال مطبوعاً في الذاكرة الجماعية للبنانيين، بأنّه شكّل الخط الفاصل بين جحيمين. والمواجهة أخذت شكلاً طائفياً كاملاً مع مفرداتها المقيتة. لذلك، كان لا بدّ للقلق ان يصل الى حدود الذعر، في وقت تسابق البعض على رفع مستوى الإحتقان وتأجيج المواقف، بدل الذهاب الى لملمة أهوال ما حصل، والعمل على تهدئة النفوس. دائماً الاستثمار السياسي هو السائد ولو على حساب مآسي اللبنانيين.
ثمة نقاط لا بدّ من استنتاجها من جحيم الساعات الاربع عند «محور» الطيونة:
ـ اولاً، إنّ الاشتباكات الخطيرة التي دارت لن تكون لها «ملاحق» اخرى.
ذلك انّ الأجواء الخارجية غير مساعدة في هذا الاتجاه، لا بل فهي تتطلب اجواء اكثر هدوءاً على الساحة اللبنانية. فبعد يومين ستُعاود المحادثات حول الاتفاق النووي بين ايران والمجموعة الاوروبية في بروكسل وسط أجواء تفاؤلية. وهذا التطور المهم، والذي يحمل طابعاً ايجابياً، لا يمكن ان يترافق مع أحداث معاكسة على الساحة اللبنانية.
أضف الى ذلك، الانفتاح الحاصل بين إيران والسعودية، ما يوجب تبريد الجبهات المشتعلة لا فتح جبهات جديدة.
وفي سوريا، اعلن مبعوث الامم المتحدة غير بيدرسون، انّ اللجنة السورية المشتركة للدستور، والتي تضمّ ممثلين عن النظام والمعارضة، وافقت على البدء بصوغ مسودة الإصلاحات الدستورية. في اختصار، فإنّ الأجواء الخارجية ليست صدامية، ما يعني عدم وجود مشاريع استثمار خارجية للأحداث اللبنانية، وهو ما يدفع الى الاستنتاج، أنّ أفق التصعيد او توسيع المواجهات غير متوافر، وأنّ المطلوب البحث عن مخارج، ولو تطلّب ذلك استخدام نبرة خطابية مرتفعة بهدف استيعاب الاحتقان الموجود.
ـ ثانياً، انّ الاشتباكات على خطورتها اثبتت مرة جديدة، أنّ شروط انطلاق حرب أهلية في لبنان غير متوافرة. فهل كان ثمة بداية أكثر ملائمة مما حصل، للعودة إلى فرز المناطق وإشعال خطوط التماس والانزلاق الى اتون الحرب الاهلية؟ وربما لأنّ الاطراف في لبنان يدركون أنّ الحرب الاهلية غير واردة، فهم يستهترون في مقاربتهم للمشكلات اللبنانية الحساسة.
ـ ثالثاً، الخطورة باللجوء الى الشارع، في وقت تصبح الأمور قابلة للتفلّت عند أي لحظة. فاعتماد المسؤولين في لبنان على المبدأ السياسي نفسه بتعبئة شارعهم الى الحدّ الأقصى، من خلال عناوين مثيرة في إطار لعبة المصالح والنفوذ، سيجعل من اللجوء الى الشارع ما يشبه القنبلة التي لن يستطيع احد السيطرة عليها بسهولة، وهو ما حصل منذ ايام.
ومعه، لا بدّ من حصول التزام ضمني بين مختلف القوى في لبنان، بعدم اللجوء الى الشارع وعرض العضلات الجماهيرية، وحصر النزاعات والخلافات والتنافس ضمن الأطر السياسية لا غير، ولو انّ حصول أحداث اخرى متفرقة غير مستبعد.
ـ رابعاً، أثبتت الأحداث ايضاً، انّ الحكومة التي سجّلت رقماً قياسياً قبل ولادتها، لن تسقط لأنّ حساباتها اقليمية وتحظى بغطاء دولي.
وكانت تكفي مثلاً التطورات الحادة التي رافقت انعقاد الجلسة الاخيرة لمجلس الوزراء لتصبح الحكومة مستقيلة. ولكن، رغم الأحداث الدموية التي حصلت وتجميد «الثنائي الشيعي» مشاركته في الحكومة، الّا أنّ الامور لم تصل الى حدّ الاستقالة، لا بل على العكس، فإنّ المؤشرات ترجح عودة غير بعيدة الى جلسات مجلس الوزراء، بعد حصول ترتيبات وتفاهمات معينة.
ـ خامساً، الضمان الذي يمثله الجيش اللبناني رغم الظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة التي يمرّ فيها كما سائر القطاعات والمؤسسات في لبنان. فعلى سبيل المثال، لو لم يكن الجيش اللبناني موجوداً او حاضراً لسبب من الأسباب، ألم نكن لنشهد «مذبحة دموية» وكارثة اكبر بكثير مما حصل؟ ألم يكن الجيش العاقل الفعلي بين مجانين الشارع؟ مع وجوب الأخذ في الاعتبار الظروف المعيشية القاسية التي تئنّ تحتها المؤسسة منذ عامين على الاقل، والمسؤوليات المرهقة التي تتولاها يومياً، وسط استهدافات سياسية لم تتوقف يميناً ويساراً. وحتى في عزّ أحداث الخميس الدموية جرى التصويب على الجيش، ربما للتأثير على معطيات التحقيق التي تتولاها مديرية المخابرات. ولا بدّ من الاشارة هنا، وخلافاً لكل ما يُشاع، الى انّ العلاقة بين قيادة الجيش ومختلف القوى والاحزاب السياسية هي علاقة جيدة، وتحديداً مع قيادة «حزب الله».
ـ سادساً، بسبب خطورة ما حصل وفداحته، طُرحت تساؤلات كثيرة حول مصير الانتخابات النيابية المقبلة وإمكانية إجرائها. وثمة حسابات كثيرة جرى إدراجها في هذا الاطار، منها ما يتعلق مثلاً بالانعكاسات الفورية لهذه الاحداث على التأييد الشعبي. لكن التجارب اللبنانية علّمتنا انّ الحساب «الفوري» شيء والحساب «اللاحق» شيء آخر. اي انّ اشهراً عدة تفصل عن موعد الانتخابات النيابية، ومن المحتمل ان تحمل احداثاً وتطورات اخرى تبدّد صورة اليوم.
وخلافاً لما هو شائع اليوم، فإنّ موعد اجراء الانتخابات سيكون في شهر ايار وليس اواخر آذار كما اقترح البعض. ما يعني انّ نحو 7 اشهر تفصل عن الانتخابات. وفي الحسابات اللبنانية، فإنّ هذه المدة طويلة نسبياً. فبعد اسابيع سيعود الهمّ المعيشي ليطغى على كل ما عداه.
وخلال الايام الماضية تواصل السفراء الغربيون بكثافة مع المسؤولين اللبنانيين، للوقوف على خلفية ما يحصل. وأبدى هؤلاء تمسك عواصمهم بإجراء الانتخابات النيابية في موعدها. مع الإشارة الى انّ تفاهمات خارجية سريعة ستسبق موعد فتح صناديق الاقتراع.
ثمة أسرار عدة واكبت أحداث الخميس الماضي، قد لا تُكشف الآن.