انّ أيّ إنسان راقب ما جرى عشية ويوم حصول المجزرة المروّعة في منطقة الطيونة بحق المتظاهرين السلميين المتوجهين نحو قصر العدل للاحتجاج على تسييس التحقيق في تفجير مرفأ بيروت والمطالبة بتصويب مساره، يدرك تماماً أنّ كميناً محكماً قد أعدّ وجرى نصبه من قبل مجموعات مسلحة منظمة تعرف جيداً كيف تنصب الكمائن وهي مدرّبة بإتقان على استخدام سلاح القنص والتموضع القتالي الاحترافي في الأبنية المشرفة على الطريق الذي ستسلكه التظاهرة…
ومن الواضح أنّ هذه المجموعات المسلحة التابعة لتنظيم القوات اللبنانية، قد حوّلت المنطقة إلى ساحة حرب، كانوا خلالها يصطادون المتظاهرون الواحد تلو الآخر وكأنهم في حقل رماية… وقد أعلنت قيادات القوات، وفي المقدمة سمير جعجع المسؤولية عن ارتكاب المجزرة، عندما زعم جعجع انه كان يدافع عن المسيحيين في مواجهة ما أسماه «ميني7 أيار مسيحي»… وأراد بذلك ان يبرّر جريمته للقول انه هو من يحمي المسيحيين وعلى الجميع أن يلتفّ حوله.. ايّ أنه مارس الإرهاب المنظم بارتكاب مجزرة عن سابق إصرار وتصميم، على غرار المجازر التي ارتكبها خلال الحرب الأهلية، لفرض نفسه ممثلاً أوحد للمسيحيين، والعودة إلى التخندق الطائفي في محاولة يائسة لإحياء الدعوة إلى شعارات التقسيم والكانتونات، وهي شعارات ثبت سقوطها وعدم إمكانية فرضها خلال الحرب الأهلية رغم كلّ الظروف التي توافرت في ذلك الوقت لمصلحة هيمنة القوات بالقوة والقمع والإرهاب على ما كان يسمّى «المناطق الشرقية».
على انّ ما هدف اليه جعجع من ارتكاب المجزرة في هذا التوقيت، ومن ورائه واشنطن التي وفرت له الغطاء والحماية، تحقيق جملة من الأهداف، يريد توظيفها في حملة الانتخابات النيابية المقبلة.
أولاً، إجهاض الانجازات التي حققها حزب الله وحلفاؤه من وراء قراره كسر الحصار الأميركي، باستيراد المشتقات النفطية من ايران، ونجاحه في إجبار واشنطن على تخفيف حصارها على سورية لاستجرار الغاز المصري والكهرباء من الأردن عبر سورية إلى لبنان في محاولة لتبرئة نفسها من المسؤولية عما يعانيه اللبنانيون نتيجة الحصار الأميركي… وتسهيل تشكيل الحكومة بعدما كانت تضع فيتو على حكومة يشارك فيها حزب الله وحلفاؤه.
ثانياً، استدراج المقاومة إلى الوقوع بفخ الفتنة وبالتالي العمل على محاولة تشويه صورتها والنيل من سلاحها ضد الاحتلال الصهيوني..
ثالثاً، إحداث استقطاب طائفي حاد يظهر من خلاله سمير جعجع حامي حمى المسيحيين بهدف توحيدهم خلفه، وإضعاف التيار الوطني الحر حليف المقاومة والرافض إعادة زجّ المسيحيين في حرب أهلية جديدة تخدم مخططات الخارج..
رابعاً، القول للأميركي و»الإسرائيلي» والسعودي ان سمير جعجع يستطيع ان يكون حصان طروادة الذي تراهنون عليه في مواجهة المقاومة..
خامساً، حماية التحقيق المسيّس في جريمة تفجير مرفأ بيروت، وتحميل حزب الله وحركة أمل المسؤولية عما حصل في الطيونة لأنهما أقدما على التظاهر لتصويب مسار التحقيق ووضع حدّ لعملية تسييسه والحيلولة دون محاولة تكرار سيناريو التحقيق المسيّس في اغتيال الرئيس رفيق الحريري والذي لم يصل إلى تحقيق العدالة، وإنما خدم المخطط الأميركي باستغلال التحقيق ودماء الرئيس الحريري لتنفيذ انقلاب عام 2005 عبر اتهام سورية والضباط الأربعة تارة، واتهام المقاومة تارة أخرى.. واليوم يريد سمير جعجع وبتحريض من واشنطن ان يلعب دور قيادة انقلاب أميركي جديد يمكّن الفريق الأميركي من حصد الأغلبية في الانتخابات المقبلة للسيطرة على البرلمان وإعادة تشكيل السلطة بما يحقق الأهداف والشروط والإملاءات الأميركية…
لكن هل انّ جعجع نجح او سينجح في تحقيق هذه الأهداف المذكور؟
انّ نجاح جعجع في ذلك كان مرتبطاً أولا بانزلاق حزب الله وحركة أمل إلى فخ الفتنة في الردّ على جريمة القوات، وبالتالي يختلط الحابل بالنابل ويتحقق له ما أراده من تشويه لسلاح المقاومة وتبريره لاستخدام سلاحه والقول انه كان في حالة دفاع عن النفس في مواجهة متظاهرين مسلحين وليسوا سلميين…
غير انّ ذلك لم يحصل، لأنّ قيادتي حزب الله وأمل تنبّهتا للمخطط المُراد تمريره، والشرك الذي أريدَ لهما ان يقعا فيه.. ولهذا كان قرارهما بضبط النفس وعدم الانجرار إلى حيث يريد سمير جعجع، وبالتالي قطع الطريق على مخططه الفتنوي الإجرامي والعضّ على الجراح والصبر والتحمّل في سبيل حماية الوطن من شرور الفتنة التي تسعى اليها واشنطن وتل أبيب عبر أدواتهما للنيل من المقاومة وسلاحها الذي حرّر الأرض وفرض معادلات الردع في مواجهة جيش الاحتلال وشلّ قدرته على العربدة وشنّ الاعتداءات على لبنان وسرقة ثرواته في البحر والبر..
ولأنّ القرار كان ضبط النفس وعدم الانجرار إلى فخ الفتنة الذي نصبته القوات، فقد ظهرت القوات ومجموعاتها الإرهابية المسلحة عارية مكشوفة وهي ترتكب جريمتها في قنص المتظاهرين بدم بارد.. حتى انّ جعجع تبنى ارتكاب الجريمة عندما تحدث عما أسماه «ميني 7 أيار»، وطبعاً الفرق شاسع بين ما قام به من اعتداء إرهابي على تظاهر سلمية، مهدّداً السلم الأهلي، وبين ما قام به حزب الله في الردّ على اعتداء استهدف نزع سلاح إشارته الذي مكّن المقاومة من التواصل بين قيادتها ومجاهديها في جبهات القتال خلال حرب تموز، بعيداً عن رقابة العدو.. وعندما نجح حزب الله في إحباط هذا المخطط سلّم كلّ العناصر المسلحة الذين اعتقلهم إلى الجيش والقوى الأمنية، وحمى بذلك الأمن والسلم الاهلي، والمعادلة الذهبية، الجيش والشعب والمقاومة..
على انّ الإخفاق الثاني الذي مُني به جعجع كان مسيحياً، عندما فشل في إحداث استقطاب مسيحي بدفع التيار الوطني الحر إلى التراصف خلف موقفه، وبالتالي تفجير تحالفه مع حزب الله.. حيث جاء موقف رئيس التيار جبران باسيل، في ذكرى 13 تشرين الأول، واضحاً في تمسّكه بوثيقة التفاهم مع حزب الله، وتثمينه لموقفه بعدم الانجرار إلى الفتنة، وتحميل جعجع المسؤولية الكاملة عما حصل في الطيونة، مستعرضاً تاريخه الأسود في ارتكاب المجازر…
على انّ الفشل الثالث المنتظر ان يحصل إنما هو مرهون بما ستؤول اليه تحقيقات الجيش مع المعتقلين.. هل سوف تكشف عن تورّط القوات اللبنانية تنظيماً وقيادة في ارتكاب الجريمة وبالتالي تحويل الملف مع المعتقلين إلى القضاء لإصدار حكمه بناء على الأدلة التي توصل إليها الجيش، الذي كان شاهداً على ما جرى في مسرح الجريمة؟
وهل سيتمّ تصويب مسار التحقيق المسيّس الذي كان السبب في الدعوة إلى التظاهر، وبالتالي إقدام القوات على ارتكاب المجزرة وتهديد السلم الأهلي؟
هذا ما ستجيب عليه الأيام المقبلة، ويتوقف عليه كيفية تعاطي حزب الله وحركة أمل… اللذين أصبحا، بعد المجزرة، أكثر تشدّداً في المطالبة بإزاحة المحقق العدلي طارق البيطار، ورفض ايّ تسوية في هذا الموضوع، إلى جانب محاسبة القتلة الذين ارتكبوا الجريمة بحق المتظاهرين ومن يقف وراء إعطائهم الأمر بذلك…