خرج سمير جعجع من السجن مستفيداً من عفو عام أصدره مجلس النواب بقانون مسح الجرائم التي كان المجلس العدلي قد أثبتها بحقه وعاقبه عليها بعقوبات تراوحت بين الإعدام والأشغال الشاقة المؤبّدة، جرائم كان منها جريمة قتل الرئيس رشيد كرامي الذي قضى على متن طوافة للجيش اللبناني كانت تقله من مدينته طرابلس إلى مقر عمله في رئاسة الحكومة في بيروت. وكان يظنّ أن السجن لـ 11 عاماً قد يكون علّم الجاني دروساً تمنعه من العودة إلى ساحة الإجرام، بخاصة أن عليه أن يعرف بأنه من القواعد العامة المعتمدة في العفو العام أو الخاص هو قيام التزام ضمني من قبل المعفو عنه بأن لا يعود إلى ارتكاب جريمة مجدّداً بخاصة إذا كانت من الجرائم التي نال عفواً عنها بالعفو العام الذي يسقط الجريمة أو العفو الخاص الذي يسقط العقوبة.
لكن سمير جعجع وبكلّ وضوح وصراحة وبعد 16 سنة على استفادته من قانون العفو العام الذي اعترضت على صدوره يومها مجموعة نيابية من 22 نائباً بينهم ممثلو حزب الله في المجلس النيابي، عاد إلى الميدان الإجرامي وارتكب من الأفعال ما يشبه الجرائم التي سقطت بالعفو العام عنه ولم يكتف بما ارتكب أو يخجل به بل خرج على الناس إعلامياً مباهياً بجريمته، معتبراً أنه قام بفعل دفاعي عن المسيحيّين وأنه نفذ ما سماه «ميني 7 أيار مسيحي»، ويعني به أنه قام بعمل عسكري صغير يشبه بشكل محدود ما قامت به المقاومة في 7 أيار 2008 يوم تعرّضت لخطر المسّ بسلاح الإشارة فيها عبر قرار اتخذه مجلس الوزراء يتضمّن تفكيك هذا السلاح كمقدمة لتجريد المقاومة من سلاحها، فقامت رداً على ذلك بالضغط في الشارع ما فرض التراجع عن القرار الحكومي وصيانة سلاح المقاومة.
إنّ ما حصل في الطيونة على يد سمير جعجع وحزبه يوم 14/10/2021 وما نتج منه من خسائر بشرية ومن تهديد للأمن والسلم الأهلي وترويع المدنيين ووضع البلاد على حافة حرب أهلية، لا يمكن النظر إليه بتبسيط وتخفيف للشأن بل هو أمر بالغ الخطورة ويشكل حلقة من سلسلة من خطة متكاملة تستهدف لبنان ومقاومته، ومرتبط بكلّ عمق بما كنا نردده ونسلط الأضواء عليه من خطة أميركية وُضعت في العام 2019 لتدمير لبنان من أجل تدمير المقاومة فيه وهذه الأعمال الإجرامية تشكل وجهاً من وجوه تنفيذ المرحلة الرابعة من خطة بومبيو الأميركية التي عنوانها الانهيار الأمني، ودفع البلاد إلى الحرب الاهلية التي تدمر لبنان وتدمر مقاومته. ولهذا سجل ذاك الاهتمام الكبير بالحدث من قبل العدو الإسرائيلي وتوقع المزيد منه وترقب اللحظة الحرجة والحاسمة التي تتيح له التدخل في الميدان انتقاماً واستهدافاً للمقاومة…
ولهذا يجب أن ينظر إلى مجزرة الطيونة التي نفذت من غير مبرر مشروع ومن دون وجه حق، عبر كمين محكم استقدم لتنفيذه ونصبه مسلحون من خارج المنطقة أجروا الاستطلاع المسبق والانتشار المنسّق وتوزيع المهام وحقول الرمي المتكاملة لتنفيذ مهمة دقيقة وحساسة هامة، وأشرفت وخططت وقادت أعماله قيادة مركزية، تمثلت برئاسة حزب القوات اللبنانية، ينبغي أن يُنظر إليها بأنها عمل إرهابي إجرامي مكتمل العناصر والأوصاف لا يستند إلى شرعية تبرّره وينبغي التأكيد فيه على هذا القدر الكبير من الخطورة ويجب أن يواجه بشكل يمنع الانزلاق إلى ما يريده العدو، مع وجوب الحرص على الأمن والسلامة والمصالح والحقوق العامة والفردية، وعلى هذا الأساس نرى وجوب التعامل مع القضية والتصرف حيال ما جرى وفقاً لمبادئ ثلاثة هي:
ـ الأول تجنب الفتنة وعدم الانزلاق إلى الحرب الأهلية التي تريدها «إسرائيل» مدخلاً لتنفيذ المرحلة الخامسة من خطة بومبيو وهي الاجتياح لتجريد المقاومة من سلاحها بعد أن تكون الفتنة الداخلية قد قطعت أوصالها وأثخنت الجراح في جسمها وأشغلت بيئتها بنفسها.
ـ الثاني الذي لا بدّ من الالتفات إليه وبحرص شديد هو العلاقة مع الجيش اللبناني والنظرة له، حيث يجب أن لا يغيب عن بال أحد أن الجيش هو أحد الأركان الثلاثة في معادلة قوة لبنان الدفاعية المتشكلة من «الشعب والجيش والمقاومة»، وأنّ الجيش هو المؤسسة الوطنية التي لا يمكن تجاوزها أو الاستغناء عن دورها في الداخل لحفظ الأمن والكيان وعلى الحدود للثبات عليها والمحافظة على الحقوق والسيادة وأنّ من أهداف الأعداء الإيقاع بين الجيش والمقاومة ما يؤدّي إلى إنهاك وتآكل الطرفين بشكل يفتح المجال واسعاً أمام أصحاب الأهداف الخبيثة للنيل من الكيان والسيادة والحقوق الوطنية اللبنانية.
ـ أما الثالث فيتمثل بوجوب اتخاذ التدابير العقابية والزجرية من قبل الدولة التي عليها ولها وحدها أن تحاسب الجناة على ما ارتكبوه وهنا يجب أن تتولى الهيئات والأجهزة الأمنية والقضائية والسياسية المعنية، تتولى القيام بما يجب كل وفقاً لصلاحياته ومسؤولياته بحيث يكون الحساب شاملاً لحزب القوات اللبنانية قيادة ومرتكبين، باعتباره تصرّفاً كعصابة مسلحة ارتكبت أعمالاً إرهابية تسبّبت بقتل وجرح الأبرياء وترويع المواطنين وعرضت الأمن والسلم الأهلي للخطر.
فإذا تلكأت الدولة عن القيام بواجباتها وخضعت للضغوط الأجنبية أو راعت الغرائز والنوازع الطائفية وأحجمت عن ملاحقة المسؤولين عن ارتكاب جرائم الطيونة فإنها تسهم في تسريع انزلاق لبنان نحو الخطر الأشدّ الذي يضع علامة استفهام كبرى على مستقبل لبنان ووجوده كياناً ومكوّنات، وهنا يجب أن لا ينسى من يعنيهم الأمر بأنّ هناك رزمة من الأخطار لا تزال تتهدّد لبنان في حقوقه ووجوده، لا سيما منها التوطين والتقسيم والتفتيت ووضع اليد على الثروة الطبيعية في البر والبحر وكلّ هذه الأخطار سيسهل تحققها مع انفجار الوضع الأمني الذي سيفاقم وبسرعة حالات الانهيار القائمة في السياسة والمال والاقتصاد.
إنّ ما ارتُكب في الطيونة في بيروت يوم الخميس في 14 تشرين الأول/ أكتوبر 2021، من قتل وترويع ليس عملاً فردياً عارضاً بل خطة محضرة محكمة نفذت في سياق مؤامرة تستهدف لبنان وجوداً وكياناً وترفع التحدي أمام اللبنانيين وتخيّرهم بين أن يواجهوا المؤامرة بشجاعة مهما كانت التضحيات لإنقاذ لبنان أو يدفنوا الرأس في الرمال ويتغاضوا أو يجبنوا عن المواجهة ويضيّعوا أنفسهم ووطنهم، وبعد ذلك يندمون بعد أن يكون قد فات الوقت وخسروا الوجود الكريم في وطن سيد آمن.