هل يصدّق قاريء في العالم أن معظم اللبنانيين، وحتّى بقايا ما سُمّي بالثوّار منهم، ينتظرون بل يُقيمون أيامهم أمام المصارف ومحلات الصيرفة والأفران والمستشفيات، وينامون في عرباتهم طوابير ذليلة أمام محطّات الوقود بانتظار أن تمنّ عليهم الحظوظ بليترات من البنزين، وهم يقرأون ويسمعون عبر الإذاعات فقط لا عبر الشاشات بسبب فصل الكهرباء عنهم نهائيّاً، بأن تحت أرجلهم ثروة غازية ونفطية ضائعة بل مباعة في غابات من الأسئلة التي لا أجوبة عليها بين دهاليز السياسيين وجبروتهم وتحاصصهم وخلافاتهم اليومية؟
طويل هذا السؤآل وقاتل في بلدٍ مهزوم تحت الدرجة السفلى من السلّم الدولي وفوقها زمبابوي. يتحسّر عليه أشقّاؤه العرب ويرثونه وقد أكلتهم الدهشة في مقالاتهم وقصائدهم المتحسّرة القديمة. طويل السؤآل، ولم يكن عسيراً استشراف ورصد الإنهيارات التي كانت تعصف بلبنان قبل 17 أكتوبر 2019 تاريخ الهبّة أو الإنتفاضة ولربّما "الثورة" التي قمعتها القوى المذهبية وبعثرتها من الساحات ليدبّ اليأس والجوع والعوز والعتمة والفرار والتهديد بالقتل. لم يسبق للبنانيين أن شهدوا تدهوراً مماثلاً لا في ال1975 مع نشوب الحروب الأهلية، ولا في ال2005 بعد اغتيال رفيق الحريري والانسحاب السوري من لبنان، ولا في حرب اسرائيل على لبنان في تموز ال2006 ولا مع الإنقسامات اللبنانيّة الحادة بين 8 و14 آذار، ولا في ال 2017 عندما بلغ لبنان حافة السقوط في حروب أهلية جديدة سُحبت فتائلها المشتعلة بشحن الطواقم السياسيّة المُتنافرة حول دستور الطائف إلى الدوحة للخروج بتسويةِ ظرفية.
كنت بين المُنخرطين في الحراك جذوة للتغيير بعدما عمّت التظاهرات مختلف الأرجاء اللبنانيّة، وبانت النتيجة دموية في مواجهة جذور الطواقم السياسية المتحجّرة في قعر الفساد المتفاقم.
كان "التجمّع الأكاديمي للأساتذة الجامعيين في لبنان"، في طلائع المنخرطين بأنشطة التغيير والتوعية عبر الشابات والشباب في الجامعات والمعاهد وخصوصاً الجامعة اللبنانية التي لطالما كانت موقد التغيير الأساسي في لبنان. ولطالما قمنا ونبّهنا إلى عبره بالمخاطرالمُحدقة بلبنان، عبر المحاضرات والمناسبات واللقاءات الإعلاميّة والمذكّرات والدراسات التي أرسلناها وسلّمناها باليد أحياناً في زيارات رسميّة للمسؤولين الذين بدوا وكأنّهم لا يلتفتون سوى للتقارير الأمنية. لم نلق أيّ إهتمامٍ أو تجاوب أو وعي للمستقبل من قبل ما يُعرف بالمسؤولين، وشعرنا وكأننا في وطنين واحد للمسؤولين وآخر للشعوب والمجموعاتٍ المتعاشية في أوطان وضواحي طائفية ومذهبية متباعدة لكنّها موصولة بتراتبية بجهّات الخارج. كنّا على يقين أنّ مستقبلاً قاتماً ينتظر اللبنانيين الذين كانوا يستمرّون في كظم ضيقهم وتراجعهم وهجرة الكثير من أبنائهم، مصدّقين الوعود السياسية والمصرفية الخادعة التي كنّا نبرزها بصفتها المؤشّرات الخطيرة التي ستجعل لبنان عارياً.
إن إحتكاكنا اليومي بأجيال الشابات والشباب في أحرام الجامعات والمنتديات والجمعيات الثقافية والإجتماعية الكثيرة والساحات، جعلنا أكثر إدراكاً ومسؤوليّة وقناعةٍ لما هو قادم من سقوط. وعلى الرغم من الآمال والإيجابيات التي كانت وما زالت تحكم فلسفة التغيير وقواعدها، كانت هناك قناعةٍ راسخة صادمة تلازمنا مفادها كشف الأغطية عن السياسات الجاهلية المتنافرة التي تديرها المرجعيات الحزبية والطائفية الفاسدة التي تتقاسم بشكلٍ فاضح ومعيب للسلطات والمناصب والمال العام في لبنان، بالإضافة إلى التحايل والمكابرة لتسليم بقايا الوطن المهرّب إلى أولادهم وأحفادهم وأزلامهم بما يُبقي لبنان عقاراً خاصاً مهدّداً بالإفلاس وفق مقترحات المنظّمات الدوليّة. وأقصى تجليّاته تجمّع أولاد النوّاب الذين شاخوا في البرلمان بانتظار الإنتخابات البرلمانية القادمة بعد أشهر.
يتراكم الفشل فاليأس بين "ثورة" هائمة و"دولة" نائمة. الأولى هائمة بين أقواسٍ وشعوب لم تلفحها الثورات الملوّنة ولا الناعمة ولا ربيع العرب، والدولة ساحة فقدت جلدها وأحاسيسها إذ لا حدود أو ابواب لها فغابت في مشاعات الحريّة والإرتجالية والأوامر والأفكار الإقليمية والدولية والكونية.
ينزلق اللبنانيون بسرعةٍ قياسية ويتخبّطون في مجاهل وعرة من تاريخ لبنان الحديث المُندثر بين أيدي حكّامه بسياساتهم العقيمة، ولهذا لم يبقَ سوى الحبر للمجابهة والتوعية والإضاءة والتقويم والإيجابية والنقد. لم يبق حيال هذا الإنحطاط الشامل، سوى شقع النصوص المتلهّفة للضوء الخارجي في العتمة اللبنانية الشاملة، توقاً إلى بروق الحرائق والتهديم المتلاحقة التي كانت وما برحت تخيفنا وتلهبنا قبل نزول الناس إلى الساحات. إنّه لمن الكُفر التفرّج والتحرّق على وطنٍ متهالك تربويا وإجتماعيا وماليا واقتصاديا ونقديا وأخلاقياً يمسك بخناقه أشخاص لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين بما يحفر أحلك الظروف التي عرفها اللبنانيون منذ "سفر برلك إلى زماننا الأسود مروراً بالإعلان عن دولة لبنان الكبير.