لم يكن الكلام الصادر عن كل من رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع والامين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله مطمئناً للاجواء اللبنانية السائدة، ان على الصعيد السياسي او على الصعيد الامني، وبلغ التصعيد الكلامي بينهما ذروته، ولم يكن ينقص بالفعل سوى استعادة لغة السلاح لتكتمل صورة حقبة الثمانينات من القرن الماضي. ولكن، على الرغم من نزول الرجلين الى حلبة المصارعة السياسية والتهديدية، كان هناك قاسم مشترك وحيد بينهما اتفقا عليه ان الجيش اللبناني هو الملاذ الآمن للجميع، وعلى الرغم من بعض الملاحظات التي سجّلها الطرفان، ومن يتبعهما، على الجيش خلال احداث الطيّونة المشؤومة، بقي الحديث على ضرورة تحييد الجيش عن الصراعات السياسية والطائفية والمذهبية، وعلى انه الوحيد القادر على جمع الافرقاء كافّة، حتى ان نصر الله ربط "فرط" البلد بـ"فرط" الجيش.
هذا الامر يحمل دلالات عدّة ايجابيّة الطابع لكنها تحمل في طياتها ايضاً تفاصيل قد تكون سلبية ويستغلها البعض لإذية المؤسسة العسكرية او اضعافها على الاقل، وزرع الشكوك حولها. ووفق ما يتردد في بعض الصالونات، فإنّ استهداف الجيش عمليّة غير بريئة، لان الجميع يعلم انه ليس بامكان الجيش اللبناني او اي قوة امنية رسميّة اخرى التعامل مع احداث داخليّة بهذا الحجم وفق ما تقتضيه الظروف، ولعل ابرز مثال على ذلك مدى الانتقادات القاسية التي توجّه الى عناصر القوى الامنيّة في اوروبا والولايات المتّحدة وغيرها من دول العالم عند التعامل مع احداث عنصريّة او انقسامات داخليّة حادّة، اذ لا يمكن ارضاء الجميع في مثل هذه الظروف، وتصبح هذه القوى (على غرار الجيش في لبنان)، محطّ انتقاد واستهداف عالي السقف من قبل البعض. ويقيناً، لو انه قدّر للجيش اللبناني ان يلعب دوره الرسمي لجهة عدم تدخله في الاحداث الامنية الداخلية، فإن أيّ قوة امنيّة رسميّة اخرى كانت ستتعرض للانتقادات نفسها، وربما بطريقة اقسى. من الطبيعي الا يرضي اداء الجيش البعض، ولكن الى هؤلاء الذين ينتقدون تصرف المؤسسة العسكرية، هل كان بامكانهم تأمين بديل، او اقتراح تصرفات اخرى افضل من تلك التي قام بها عناصر الجيش، خصوصاً وانهم يعلمون تماماً ان أي خلل في الاداء او هفوة صغيرة، من شأنها ان تتطور سياسياً وطائفياً ومذهبياً وتودي بالبلد الى ما لا تحمد عقباه، لان الارضية اللبنانية خصبة جداً لمثل هذه الاحداث، ولمن لا يزال يشكك ما عليه سوى العودة الى احداث الطيونة نفسها.
ويقيناً، فإن القاء المسؤولية على الجيش لجهّة كشف ملابسات ما حصل، غير بريئة ايضاً، لأنّه سيتعرض حتماً للانتقاد اياً كانت نتيجة تحقيقاته، ان حمّل المسؤولية لطرف او لآخر، او حتى ان لم يلقِ بالمسؤولية على احد، ففي كل الاحوال سيبقى عرضة للانتقادات والهجمات لان الهدف الذي يريده المسؤولون ورؤساء الاجزاب والتيارات هو انتخابي بالدرجة الاولى.
اما الحديث الآخر الذي يدور حول الجيش، فسياسي الطابع ويتعلق تحديداً بقائده العماد جوزف عون، حيث عادت الى الظهور مجدداً مسألة الانتخابات الرئاسيّة وارتباطه بها، بحيث يتعرّض في كل شاردة وواردة تحصل في المؤسسة العسكرية، الى استهدافه على خلفية "طموحه الرئاسي". وهذا ما دأب عليه البعض بعد المواجهات الدامية التي حصلت اخيراً، اذ اعتبر ان تصرف الجيش لم يكن على المستوى المطلوب، لان قائده لا يرغب في افساد حظوظه في رئاسة الجمهورية بعد انتهاء ولاية رئيس الجمهورية الحالي العماد ميشال عون، وهو حالياً الاوفر حظاً للوصول الى هذا المنصب بفعل التأييد الدولي والزخم المحلي الذي يحظى به. واذا كان من المنطقي لمرشّحين او لاعبين محليين استهداف من لا يرغبون في رؤيته في قصر بعبدا بعد نحو سنة، إلاّ انه من المستغرب استغلال كل شيء لهذه الغاية، حتى ولو كان الامر على هذا القدر من الحساسية والدقة...
اثبت تاريخ لبنان القديم والحديث، وباعتراف الخارج قبل الداخل، ان الجيش هو "الخرطوشة الاخيرة" التي يملكها اللبنانيون، الذين يستنفذون كل طلقاتهم على امور عبثية لا تعود بالفائدة والخير عليهم ولا على وطنهم، ويجب بالتالي الالتفاف حول الجيش بالقول والفعل وترك كل الحسابات الانتخابية والسياسية جانباً كي لا يضيع الوطن.