«الانتخابات على الابواب وهي السبيل الوحيد للتغيير». هذا ما تكرره القوى السياسية حالياً، سلطة ومعارضة، لأنها توليها أهمية استثنائية. الانهيار العام الذي يعيشه الوطن دفع بالأطراف السياسية الى رفع شعار التغيير، فهو من ناحية شعار يستجيب لرغبة الشعب اللبناني العارمة التي تجسّدت في انتفاضة 17 تشرين، ومن ناحية أخرى يُبعد عن هذه القوى اتهامات الفساد والفشل كي تلصقها بغيرها. أوليس مستغرباً ان تطالب الأحزاب التي تتوالى على السلطة منذ عقود بالتغيير وأن تدّعي الرغبة في الإصلاح ومحاربة الفساد فيما ممارساتها هي تجسيد حي له؟! وكأنّ كلّاً من الاحزاب يقول: لست انا الفاسد بل الاخرون، فيما في الحقيقة كلّ من شارك في هذه السلطة هو مسؤول بطريقة أو بأخرى عن الانهيار العام وعن ايصال البلد الى الافلاس والشعب الى الجوع.
الانتخابات المقبلة يصوّرها الجميع، على أنها أداة المحاسبة الاولى التي ستسمح بإطلاق ورشة التغيير. في المبدأ، هذا هو دور الانتخابات في الدول الديمقراطية حيث تتمّ الانتخابات بناء على برامج يطرحها المرشحون أو الأحزاب فيختار الشعب ما يراه في مصلحته. ويستند المرشحون لوضع برامجهم الانتخابية الى دراسة اتجاهات الجمهور لمعرفة ماذا يريد المواطن وماذا ينتظر منهم؟ وانطلاقاً من هذه الدراسات يَصوغ المرشحون خطاباتهم ويبنون حملاتهم وبرامجهم فتأتي استجابة لانتظارات المواطن وتحمل اقتراحات لحل المشاكل التي يعانيها. فالبرامج الانتخابية، في الأساس، هي منافسة بين المرشحين على من يقدّم أفضل الحلول للمشاكل العامة ومن يتبنّى الخدمات الافضل لتحسين الاقتصاد ورفع مستوى حياة المواطن. كما أن للعملية الانتخابية دورا رئيسا في محاسبة مَن زاولَ السلطة ومُساءلته، فتأتي صناديق الاقتراع لتعاقبه أو لتجدّد الثقة به.
هذا في الدول الديمقراطية حيث قواعد اللعبة الانتخابية محترمة وحيث يتبارى المرشحون بحظوظ متساوية، وبفرص متساوية، فتستقبلهم وسائل الاعلام بالتساوي ليستطيعوا إيصال رسائلهم والتواصل مع المواطنين، وحيث لا ضغوط على الناخبين، وحيث هناك قضاء حر يراقب العملية الانتخابية ويشرف عليها. فقط للتذكير انّ القضاء الفرنسي حكمَ قبل اسابيع على رئيس الجمهورية السابق نيكولا ساركوزي بالسجن لأنه تخطّى خلال حملته الانتخابية السقف المالي المسموح به.
الواقع عندنا ان حملاتنا الانتخابية تختلف كلياً عمّا هي الحال في الدول المتقدمة. فخطاب الأحزاب، في غالبيته، كما بدا في الأيام الاخيرة تَجييشي، تهديدي، يعتمد على إثارة النعرات وشد العصب الطائفي. فيما تبدو البرامج الانتخابية مجرد شعارات، كمثل: مرشح الشعب، أو لائحة الإصلاح، او التنمية، او لبنان القوي، او ما عداها من شعارات باتت فارغة من مضمونها. كيف لا وأبسَط مثال على ذلك ان لبنان عاجز عن حل مشكلة نفاياته التي يغرق فيها منذ سنوات وتعود دورياً الى الشوارع ولا مَن يسعى الى إيجاد حل لها، و»مرشح الشعب» هو في الغالب مرشح المال والقصور والاقطاع السياسي.
هل الرهان على التغيير من خلال الانتخابات هو رهان عقلاني أم أنه رهان ساذج على انتخابات لا تحمل معناها؟ أيّ نموذج تُجرى على أساسه انتخاباتنا؟ هل حرية الاقتراع في لبنان حقاً مؤمّنة؟ هل هناك حرية كافية للمرشحين كي يجابهوا قوى الامر الواقع المسيطِرة على الارض؟ هل الفرص متاحة أمام المرشحين، لا سيما الذين يترشحون على لوائح المجتمع المدني، كي يتمكنوا من عرض مشاريعهم عبر وسائل الاعلام المملوكة من أحزاب السلطة ومن سلطة رأس المال؟ في الانتخابات الماضية وضعت محطات التلفزة بشكل سافر تسعيرة للمرشحين كي تستقبلهم في برامجها الحوارية وهي مبالغ لا يستطيع دفعها الا القلّة التي غالبيتها سَطَت على أموال الناس. فيما المرشحون الشباب او الذين خارج الدائرة السياسية سيعجزون عن دفعها. ونسي الجميع قانون الاعلام والاعلان الانتخابيين. الكل يعلم أن ادوات التأثير في الناخب او «الاقناع» متعددة، وهي تتراوح بين الضغوط المتعددة وصولاً الى المال الانتخابي. فهل سيستطيع مثلاً رب عائلة في هذه الظروف الكارثية أن يصمد أمام إغراءات كرتونة مساعدات وبضعة ليترات من المازوت؟
أحزاب السلطة كما قوى المعارضة تدعم العملية الانتخابية، والطرفان يراهنان عليها مع علمهما بأمرين: الأول ان الانتخابات قد لا تحصل، والثاني أنه لو حصلت فهي ستفتقر الى الحرية والديمقراطية. فقد بدأ التجييش الطائفي يأخذ مداه، ما يجعل الناخبين يتقوقعون وراء زعاماتهم. هل يمكن أن نصدّق أن الثنائي الدرزي جنبلاط-أرسلان لن يحظى بغالبية الأصوات الدرزية؟ أو أن الثنائي الشيعي لن يحظى بغالبية الأصوات الشيعية؟ أو أن الشارع السني سيتخلّى عن وريث رفيق الحريري؟ حتى في الشارع المسيحي سيبقى توزيع الاصوات بين الأحزاب المتصارعة القائمة، وإن بنسَب مختلفة؟ أين هي القيادات الجديدة التي ستفرزها الانتخابات وتقود التغيير؟ اين هم ممثلو انتفاضة 17 تشرين الذين لم تَلوِ الاستدعاءات والضغوط ارادتهم؟ إنهم قلة قليلة.
حتماً لبنان ليس النموذج السويسري او الغربي عموما حيث صوت الناخب مقدّس والمساواة في الفرص بين المرشحين متوافرة، وحيث نتيجة صناديق الاقتراع تعبّر عن رأي الشعب. كما أنه ليس النموذج السوري او الأنظمة السلطوية عموماً حيث الانتخابات هي لتعويم النظام كي يستمرّ في السلطة. لبنان ليس بلد الديمقراطية التي ندّعيها، فالمحادِل الانتخابية فاعلة بقوّة من خلال أدوات مختلفة بما فيها شكل القانون الانتخابي، وهي ليست بحاجة الى برامج انتخابية، وانّ المال والفقر يعطّلان جوهر العملية الانتخابية، وانّ تخويف المناصرين من الآخر او ادّعاء حمايتهم يَطغى على العقول ويجمّد اي محاولات التغيير في المجتمع، وأن القضاء العادل في مرمى نار القوى السياسية.
التغيير هو حلم الشعب اللبناني بأكمله، وعلى رغم كل العوائق، نبقى على أمل ان تسمح الانتخابات بمحاسبة الذين دمروا الوطن وأذلّوا شعبه، وان لا تكون نوعاً من الفولكلور تثبّت الفاسدين في كراسيهم المخملية.