يبدو انّ سياسة ربط النزاع بين «حزب الله» و»القوات اللبنانية»، والتي سرت لفترة من الوقت، قد تهشمت في الطيونة، على الرغم من كل المحاولات والتجارب التي جرت لتثبيتها.
صحيح انّ الكيمياء السياسية لا تسري اصلاً بين الجانبين لأسباب تكوينية تتعلق بالجينات التأسيسية لكل منهما، الّا انّ الواقعية او البراغماتية التي تفرضها خصوصيات الساحة اللبنانية أفرزت في أحيانٍ عدة تقاطعات موضعية بينهما في مجلسي النواب والوزراء، وبالتالي فإنّ الحزب تحديداً يشعر بأنّه تجاوز كثيراً من الاعتبارات المتراكمة والحواجز النفسية، لطي بعض صفحات التاريخ وتنظيم التعايش، مع خصم داخلي يشكّل جزءاً من تركيبة المؤسسات الدستورية.
وحتى حين كان رئيس «القوات» سمير جعجع مسجوناً، وحزبه محظوراً، تقبّل «حزب الله» وجود مرشح «القوات» في انتخابات 2005 إدمون نعيم على لائحة واحدة مع مرشحه عن دائرة بعبدا عاليه، ربطاً بمقتضيات التصدّي لخطر الفتنة الذي كان يشكّل هاجسه في مرحلة ما بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري والانسحاب السوري من لبنان.
لاحقاً، ذهب الحزب أبعد في واقعيته، وشارك أمينه العام السيد حسن نصرالله شخصياً في طاولة الحوار الوطني التي دعا اليها رئيس مجلس النواب نبيه بري عام 2006 في حضور جعجع، وكانت تلك هي المرة الأولى التي يلتقي فيها الرجلان وجهاً لوجه. آنذاك، اعترض بعض المتحمسين على قبول السيد نصرالله بالجلوس الى جانب رئيس «القوات» حول طاولة واحدة، ولكن الامين العام للحزب، اعتبر انّ الضرورات في تلك اللحظة كانت تبرّر ما فعله، وانّ المرونة التي أبداها على هذا الصعيد تثبت صدقيته في إعطاء كل الفرص لإنجاح الحوار، من دون فرض فيتو على مشاركة أي من الشخصيات المدعوة اليه.
تدحرجت الأحداث بعد ذلك، واشتدت الخصومة بين الحزب و»القوات» تحت وطأة تعارض عميق وحاد في الخيارات والمقاربات والتحالفات والمصالح. لكن دينامية التسوية دفعت الطرفين مجدداً الى «الالتقاء القسري» في حكومات الوحدة الوطنية والمجلس النيابي، حيث راحت معادلة ربط النزاع تتعزز مع مرور الوقت، على قاعدة تحييد الخلاف السياسي الاستراتيجي الذي لا حلول جاهزة له، عن الملفات الإجرائية التي يمكن التوصل الى معالجات لها، وربما تشكّل مساحة لتوافقات ظرفية بين الجانبين، ومنها ما يتعلق بمكافحة الفساد او بمسائل خدماتية وما شابه.
وقد حصل في إحدى المرات، على سبيل المثال، ان التقى الحزب و»القوات» حول مقاربة مشتركة لملف بواخر الكهرباء في الحكومة، بينما كان لـ»التيار الوطني الحر»، الذي هو حليف «حزب الله»، موقف مغاير تماماً.
وحتى عندما كانت تصدر عن رئيس «القوات» ومسؤوليها مواقف او اتهامات حادّة ضدّ الحزب، لاسيما عند مفاصل معينة، كان أمينه العام يتفادى في إطلالاته الردّ المباشر، مكتفياً بتلميحات وإيماءات، من دون تسمية «القوات اللبنانية» بالإسم، منطلقاً من اقتناعه بأنّ المواجهة الحقيقية هي مع الأصيل لا الوكيل.
انما، وعلى الرغم من كل المسعى الذي بُذل عبر سنوات لتنظيم الخلاف المترامي الأطراف بين الحزب و»القوات» وسحب فتائله، انفجر يوم الخميس الأسود التعايش الهش والاضطراري، ونفض التاريخ الغبار عن اكثر فصوله دموية، مستعيداً مواقعه وأشباحه على خط التماس القديم، ليتبين انّ ما يفرّق الحزب و»القوات» هو أكبر واعمق من ان تداريه المجاملات وتغطيه التقاطعات السطحية التي يمكن أن تؤجّل الانفجار الى حين، ولكنها لا تستطيع أن تمنعه طويلاً.
من منظار الحزب، انّه صبر كثيراً على استهدافه من قِبل «القناصة السياسيين» في «القوات»، وهو كان مستعداً لمزيد من الصبر لو ظل الأمر محصوراً ضمن هذا الإطار، «أما ان يُسفك الدم بأعصاب باردة ولنيات مبيتة، فهذا تجاوز للخط الأحمر لا يمكن تحمّله، وبالتالي استوجب تعديلاً في قواعد الاشتباك على النحو الذي شرحه السيد نصرالله، وصولاً الى التلويح بمئة الف مقاتل، في سياق تثبيت نسخة داخلية مستحدثة من معادلة الردع»، وفق ما يؤكّد القريبون من الحزب، مشيرين الى انّ «كشف الرقم، المصنّف تقليدياً ضمن «الأسرار العسكرية»، انطوى على رسالة ليس فقط الى معراب، وإنما إلى العرّابين الاقليميين والدوليين أيضاً، وكذلك اسرائيل هي معنية بالرسالة، لكي تعرف من وماذا ينتظرها في لبنان، اذا قرّرت التهور وشن عدوان عليه».
ويلفت المطلعون على دوافع تظهير عدد المقاتلين المحترفين في هذا التوقيت، الى انّ «وظيفته الحقيقية هي ردع مجرد التفكير بالذهاب نحو حرب أهلية، بعدما شعر الحزب عقب تثبته من محضر لقاء جعجع - جنبلاط قبل فترة، انّ الأول ربما يستسهل خوض هذه المغامرة، كما يُستنتج من دلالات مجزرة الطيونة».
ولئن كان هناك من رجّح ان يؤدي خطاب السيد نصرالله الى شدّ العصب والعطف المسيحي حول جعجع لا العكس، يلفت المحيطون بالحزب إلى انّ رئيس «القوات» لديه مشكلات متفاوتة الحجم مع مكونات مسيحية عدة كـ»التيار الوطني الحر» وتيار «المردة» و»حزب الكتائب» ومستقلين، اضافة الى انّه لا يحظى بتأييد شريحة من الطبقة الوسطى، وهؤلاء لن يقبلوا بأن يتمّ تهديد مصالحهم عبر أخذهم الى حرب أهلية جديدة.
وأمام التطور المستجد، تُطرح تساؤلات حول مستقبل العلاقة بين الجانبين في المؤسسات التي تجمعهما عنوة، وكيف سيتمّ ضبط وترها في ظل توتر غير مسبوق، خصوصاً انّ دخول احد نواب «القوات» الى الجلسة التشريعية الأخيرة مزنراً بمسدسه، إنما يؤشر إلى حجم الاحتقان السائد ومستوى القلق من الآخر.