الأولوية عند المواطن اللبناني هي الهم المعيشي. وهذا الأمر ليس همّ الطبقة السياسية المتنازعة في ما بينها على الأدوار والحصص والمواقع والإنتخابات.
راتب الموظف يوازي سعر ستة غالونات بنزين مع انهيار كامل للطبقة المتوسطة عنصر التوازن الحقيقي لأي مجتمع يحول دون الإنفجار الإجتماعي، ذلك أن هذا الإنفجار قادم لا محالة في لبنان مصحوبا بفوضى عبثيّة لا تحول دون استقدام الفتنة الأهليّة التي لا يستفيد منها إلا الكيان الصهيوني، الذي من مصلحته الفعلية تمزيق المجتمع اللبناني إلى ’’هويات جزئية‘‘ متناحرة، وتؤسس لفكرة الكراهية المتبادلة والحدود الطوائفية التي تلغي وطنا اعتبره الجميع ’’نهائيا‘‘ لكل اللبنانيين.
تتلازم وتتشابك الأزمات اللبنانية على اختلافها. والحراك الشعبي الأوّل الذي انضم إليه عفويا غالبية اللبنانيين من كل الطوائف والمناطق احتجاجا على الوضع المعيشي الصعب، وصعود الدولار والفساد ولإجراء إصلاحات سياسية وإدارية ولجم نظام المحاصصة الطوائفية والسياسية في سياق ضوابط محددة. هذا ’’الحراك‘‘ الواعد تمّ تدجينه بعامل خارجي لتوظيفه في حسابات سياسية واقليمية وبعامل محلي وضع أمامه جدرانا طوائفية، أو برسم شعارات له تدرجه في الإنقسام الطوائفي وحسابات القوى السياسية التي لا تنتمي إليه في الصميم باعتباره يؤسس إلى هوية وطنية وإلى مواطن في وطن لا مواطن في طائفة.
ورغم الصورة القاتمة حاليا ثمة دور للنخب الفكرية في كل الطوائف لأن تشكل الحاملة الاجتماعية للمساهمة في وقف الإنهيار. وهذا يتطلب ’’سلما أهليا‘‘ غير متوفر في اللحظة الراهنة. ولكن ذلك يشكل وعدا باعتبار أن السلطة السياسية رغم اختلافها الحاد دوما تجد المخارج على قاعدة ’’لا غالب ولا مغلوب‘‘ كما أن الخارج الدولي وتحديدا الأميركي لا يرغب في رعاية حرب أهليّة طالما يدرك سلفا أنه قادر مع الوقت على انتزاع ما يريد من السلطة السياسية. وما يريده يتجاوز لبنان إلى إقامة ’’نظام اقليمي‘‘ بشراكة مع اللاعب الروسي وبأدوار محدودة للأوروبي والايراني والتركي والإسرائيلي وبالوصول إلى ترسيم الحدود البرية والبحرية، وبالتحكم في المفاوضات مع الصندوق الدولي والبنك الدولي وبارتفاع منسوب الفعل الأميركي لبنانيا بما تقوم به السفارة الأميركية من حضور لافت في مجالات متعددة في المجتمع المدني والسياسي على السواء.
في كل الأحوال دور النخب الفكريّة الراهنة هو التهدئة واستمرار التواصل بين المناطق والطوائف والضغط باتجاه عدم الوصول إلى الفتنة. وأدوات ذلك تكمن في تلاقي هذه النخب، وفي عقد المؤتمرات والاعتراض على ’’الحلول العسكرية‘‘ وعلى التحريض الطوائفي، والعمل على ايجاد مسار مواز يحتكم إلى العقل والحكمة ويحول دون إلغاء الآخر بالإحتكام إلى الحوار. وهنا يمكن للنخب أن توفر التواصل عبر المؤسسات الإعلامية على اختلافها وعبر الإعلام الالكتروني الفاعل في ’’اللحظة نفسها‘‘، وفي الحضور على كافة الأراضي اللبنانية وفي التركيز على الشباب والمرأة.
أيا يكن الأمر، ’’خطّة التعافي‘‘ التي يشير إليها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي غير ممكنة التحقيق ما لم تتوفر تنازلات سياسية متبادلة تُخرج الحكومة من حالة الشلل. وبهذا المعنى الحكومة مطالبة بايجاد المخارج في المجالين السياسي والقضائي. فـ’’الحياد‘‘ بين الأطراف المتنازعة لا يعني بتاتا الإستكانة وعدم التدخل وحكومة يقتصر دورها على ’’تصريف الأعمال‘‘ وخصوصا أن الرئيس ميقاتي يفضلها ’’حكومة أصيلة‘‘. وهذه فرصته في التوقيت المناسب للتأكيد على ’’فكرة الدولة‘‘ التي نحتاجها جميعا خصوصا وأن التنظيمات الدينية المتطرفة قد تطل برأسها محدثة اغتيالات سياسية غير متوقعة بهدف الإرباك والحضور إلى المسرح كلاعب في توسيع رقعة الخلافات.
*رئيس المجلس الوطني للاعلام المرئي والمسموع