قد لا يكون من حق لبنان الاعتراض على القرار الأميركي بتعيين يهودي «إسرائيلي» ليكون وسيطاً بين لبنان و»إسرائيل» ورعاية المفاوضات غير المباشرة التي انطلقت في العام الماضي 2020، وهي المفاوضات التي توقفت بقرار «إسرائيلي» ـ أميركي اتخذ لأنّ «إسرائيل» رفضت البحث ـ مجرد البحث ـ في الطرح اللبناني الذي يعتمد حدوداً بحرية للبنان في الجنوب الخط الممتدّ من صخرة رأس الناقورة المنصوص عليها في اتفاقية «بوليه نيوكمب» باعتبارها نقطة الحدود البرية الأولى التي تلامس مياه البحر، إلى النقطة 29 التي يحدّدها التطبيق العلمي وفقاً لتفسير قانون البحار الذي يرعى هذا الشأن.
لقد رفضت «إسرائيل» الطرح اللبناني وتمسكت بالتفاوض المقيّد تحت سقف خط خاطئ هو الخط 23، تفاوض يفضي إلى حلّ النزاع المحصور بمنطقة 860 كلم2 وهي المنطقة المحصورة بين خط (1) وخط (23) اللذين رسما بطريقة خاطئة أسهم التقصير اللبناني لا بل عدم الكفاءة لدى من رسمهما في لبنان، في إخراجهما إلى حيّز الوجود، بيد أن الجيش اللبناني وعبر المركز الطبوغرافي الهيدروغرافي المستحدث في مديرية الشؤون الجغرافية لديه، استطاع أن يصحّح الأخطاء ويتوصّل إلى تحديد الخط (29) باعتباره حدود لبنان البحرية مع فلسطين المحتلة، ويذهب للتفاوض على أساسه، أما «إسرائيل» وبدعم أميركي فقد رفضت الخط الصواب وأكدت تمسّكها بالخطأ الذي يعطيها مساحة 1430 كلم2 يُضاف إليها ما يمكن أن تحصل عليه من مساحة الـ 860 كلم2 التي تتمسّك بحصر التفاوض عليها في الناقورة، بما يجعل المساحة المحتمل أن يفقدها لبنان لصالح «إسرائيل» تصل إلى ما يلامس 1800 كلم2 في الحدّ الأدنى.
أما السفير أموس هوكشتاين الموفد الأميركي اليهودي «الإسرائيلي» الذي عُيّن أخيراً ليقود التفاوض بين لبنان و»إسرائيل»، فقد زار لبنان حاملاً إنذارين و3 عروض ومهدّداً بضيق المهل، إذ إن أميركا وبعد ما يقارب السنة من توقف المفاوضات غير المباشرة فعلياً بقرار أميركي ـ «إسرائيلي» تستفيق اليوم وعلى عجل، وتحدّد مهلة 3 أشهر تخيّر فيها لبنان بين أن يسير بالتفاوض وفقاً لعروضها وشروطها، أو تنسحب هي من الوساطة وتدع «إسرائيل» تعمل ومن جانب واحد لاستغلال الثروة كما بدأت منذ شهرين يوم تعاقدت مع شركة أميركية للتنقيب عن النفط والاستثمار في المنطقة المتنازع عليها معتقدة أن أحداً لن يتمكّن، على حدّ تعبير الأميركي ـ من ثنيها عن العمل.
لقد حذر أموس هوكشتاين لبنان من تعديل المرسوم 6433 /2011 كما حذره من القيام بأعمال التنقيب في أي بقعة من المنطقة الاقتصادية داخل مناطق النزاع أو خارجها، عارضاً عليه الاختيار بين استئناف التفاوض بصيغة الناقورة مع حصر النزاع بمساحة 860 كلم2 أي التنازل المسبق عن خط 29، أو إسقاط صيغة الناقورة واعتماد التفاوض المكوكي الذي تديره أميركا بحركة موفدها المكوكية بين بيروت وتل أبيب، أو في عرض ثالث إسقاط وتجاوز كلّ الخطوط المتنازع عليها واعتماد صيغة الاستثمار بتقاسم الحقول أو بالاستثمار المشترك! وهنا يمكن أن يكون خط الحدود متعرّجاً يراعي مكان الحقول النفطية المتوقعة.
لقد جاء موقف السفير الأميركي ـ الوسيط «النزيه» الجديد ـ شكلاً ومضموناً بشكل ينطوي على تهديد للبنان يمنعه من الاستفادة من حقوقه، ويلزمه بالتنازل المسبق عن مساحة 1430 كلم2 (المساحة بين خطي 23 و29) ويحول دون ممارسته لحقه في التنقيب خارج المناطق المتنازع عليها، في الوقت الذي يؤكد لـ «إسرائيل» مثل هذا «الحق» داخل وخارج مناطق النزاع.
ما يعني بأنّ العروض الأميركية فيها دعوة صريحة للبنان للتنازل أمام «إسرائيل»، أو سعي إلى تفاوض ذي بعد سياسي من خلال المفاوضات المكوكية التي يتنقل فيها الموفد الأميركي بين طرفين سياسيين في لبنان و»إسرائيل»، أما العرض الثالث فإنه ينطوي على وجه من التطبيع الاقتصادي عبر الاستثمار المشترك للحقول في مناطق النزاع بواسطة شركة أميركية تقوم بتوزيع عائدات النفط بعد الاستثمار بأشراف أميركا على كلّ من لبنان و»إسرائيل».
أمام هذا التهويل وممارسة أميركا الضغط على لبنان وتهديده بخسارة حقوقه النفطية في مواجهة «إسرائيل» جاء موقف الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في خطابه الأخير ليكبح جماح أميركا و»إسرائيل»، ويعزز الموقف الرسمي اللبناني في مواجهتهما، وأحدث نوعاً من التوازن في الملف وأرسى الضوابط في الأداء، حيث أكد سماحته على أمرين هامين وخطيرين، الأول يتعلق بمسؤولية الدولة اللبنانية حصراً عن ترسيم الحدود البحرية وصلاحياتها المطلقة في إنجاز عملية الترسيم وفقاً للقواعد القانونية المعمول بها دولياً، والثاني جاهزية المقاومة للدفاع عن الثروة النفطية في كلّ منطقة تقول الدولة إنها لبنانية.
لقد انطوى موقف السيد في كلامه هذا على جملة من الرسائل إلى أكثر من جهة، بدءاً بالدولة اللبنانية المسؤولة قانوناً ودستوراً عن تحديد الحدود ولكنها غير مخوّلة بالتنازل عن الحق ما يعني وجوب تقيّدها بالقواعد والأصول التي ترعى هذه المسألة، ورسالة إلى أميركا مفادها أن التهويل والتهديد لن يقود لبنان للتنازل عن حق يراه له بموجب القانون، ورسالة إلى «إسرائيل» تتضمّن التهديد بالقوة الميدانية التي تملكها المقاومة للدفاع عن لبنان وحقوق لبنان في سيادته وثروته.
وعلى ضوء ما تقدّم فإنّ لبنان ومن أجل المحافظة على حقوقه بات ملزماً بأن يلتزم استراتيجية دفاع عن تلك الحقوق تتضمّن:
1. ـ رفض أيّ نوع من الضغوط لحمله على التنازل عن حقوقه، وبالتالي يكون على لبنان أن يسارع إلى توقيع المرسوم الذي يعدل بموجبه المرسوم 6433 /2011 ويعتمد الخط 29 بدلاً من الخط 23، وعليه أن يغتنم الفرصة التي أتاحها له قرار محكمة العدل الدولية بشأن نزاع بين كينيا والصومال وهو قرار صدر في وضع يماثل ما هو قائم في لبنان مع فلسطين المحتلة لجهة وجوب عدم الاعتداد بتأثير صخور بحرية لا ترقى إلى مستوى جزيرة عند رسم خط الحدود البحرية.
2. ـ رفض أيّ تعديل لصيغة المفاوضات أو المرجعيات القانونية لها، ما يوجب التمسك بالوفد اللبناني العسكري التقني طبيعة وأعضاء والاعتداد فقط باتفاقية «بوليه ـ نيوكمب» وباتفاقية الهدنة وبقانون البحار، ويمكن ووفقاً لقانون الدفاع اللبناني استدعاء رئيس الوفد العميد المتقاعد بسام ياسين من الاحتياط وتأمين استمرار قيادته للوفد بصفته العسكرية حتى لا تضيع فرص الاستفادة من كفاءته ولا يؤول تغييره في تفسيرات واتجاهات شتى.
3. ـ اعتبار كامل المنطقة بين الخطين 1 و29 منطقة متنازع عليها وحظر الأعمال البحثية أو الاستخراجية منها حتى فصل النزاع، وهنا يمكن الاستفادة من موقف المقاومة بوصفها قوة وطنية لحماية الثروة اللبنانية الطبيعية.
4. ـ ممارسة لبنان لحقوقه في التنقيب عن النفط واستخراجه خارج منطقة النزاع، والتعاقد مع شركات دولية لتنفيذ هذا الأمر بعيداً من الخضوع للضغوط الأميركية،
5. ـ التأكيد على سياسة لبنان المعلنة بعدم التطبيع مع العدو «الإسرائيلي»، بالتالي رفض أيّ وجه من وجوه التطبيع مباشرة أو مداورة سواء بصيغ التفاوض أو صيغ الاستثمار المشترك.
وعلى المسؤول اللبناني أن يتذكر دائماً وفي كلّ القرارات والمواقف التي يتخذها بأن لبنان ليس ضعيفاً ليرضخ لتهديد أو يهدر حقوقه، بل إنه قوي ولديه القدرات الكافية لحماية هذه الحقوق وعليه أن يتمسك بها ولا يتنازل لأيّ كان عن أيّ قدر منها، بخاصة أن قوّته ثلاثية الأبعاد… قانونية وعلمية وميدانية، ومن كان لديه مثل هذه القوة لا يتنازل…