يتداول «القواتيون» مُبرِّراتهم لحال «التوجُّس» التي يعيشونها منذ أسابيع، وبلغت ذروتها قبل أسبوع. يقولون: كيف نطمئنُّ ومعظم عناصر 1994 ما زالت قائمة أو جرت استعادتها أو هي قيد الاستعادة؟ نعم، إذا استطاعوا، «سيركِّبون» لنا «سيِّدة نجاة» جديدة ويتخلَّصون من «إزعاجنا»...
عناصر 1994، كما يورِدُها «القواتيون»، هي الآتية:
- السلطة، بمعظم مؤسساتها وأجهزتها، هي اليوم في يد الفريق الذي تَحكَّم بالبلد آنذاك.
- القضاء العسكري إياه يتولّى الملف.
- استخدامُ خطاب التهديد والاتهام والتخوين إيّاه ضدّ «القوات».
- خصوم «القوات»، في الوسط المسيحي، جاهزون لاستثمار عملية إضعافهم من أجل تحقيق مكاسب سياسية، كما فعل خصومها في تلك المرحلة.
- محور طهران- دمشق استعاد غالبية القرار ومواقع النفوذ في البلد، مقابل ارتباك المحور المقابل.
يقول هؤلاء: «في التسلسل المنطقي، إنّ استعادة العناصر التي تولّدت في العام 1994، في ظلّ الظروف إيّاها، سيقود إلى النتائج إيّاها. وهذا يعني «تركيبَ» ملف لـ»القوات»، و»تَلبيسَها» جريمة لم ترتكبها، و»شيطنتَها» سياسياً وأمنياً وأخلاقياً ووطنياً ومسيحياً، ثم رميَها خارج المعادلة السياسية، كما حصل في الفترة السورية.
ويخشى «القواتيون» أن يكون ما جرى في عين الرمانة، بما يكتنفه من غموض، وصولاً إلى الادّعاء على عناصر من «القوات» واحتمال اتهام بعضِهم بتولّي مسؤوليات أو أدوار أمنية معيّنة، واستدعاء الدكتور سمير جعجع للاستماع إلى إفادته، تكراراً «حرفياً» لسيناريو المرحلة السابقة، والذي انتهى بإزاحة الحزب عن المسرح السياسي طويلاً.
هل هذا القلق في محلّه فعلاً، أم مبالَغ فيه وناجم عن استفاقة الهواجس القديمة في أذهان «القواتيين»، من منطلق أنّ «الجمرة لا تكوي إلّا مطرحها»؟
وفي كلام أوضح، هل بات خصوم «القوات» يمتلكون من القوة وهوامش التحرُّك داخل المؤسسات ما كان يملكه النظام الأمني اللبناني- السوري في تلك المرحلة؟ وفي شكل أخصّ، هل عادت المؤسسات العسكرية والأمنية والقضائية المعنية أدواتٍ طيِّعةً في أيديهم كما كانت آنذاك؟
الخبراء يعتقدون أنّ من المبالغة الحديث عن وقوع المؤسسات كلها تحت السيطرة الكاملة، كما كانت آنذاك. فعلى رغم التأثيرات والضغوط، تحافظ غالبيتها، ولا سيما منها، مؤسستا القضاء والعسكر، على ضوابط العمل المهني. وواضح أنّ الجيش يتجنَّب السقوط في هذا المنزلق أياً كانت الظروف، أو السقوط في ما هو أخطر، أي التصادم مع «القوات». وكذلك «القوات» من جانبها.
ولكن أيضاً، هناك كثيراً من القوى السياسية، على جانبي الإصطفاف الأساسي، ليست في وارد شنّ حرب إلغاء على «القوات اللبنانية»، بما في ذلك ربما الرئيس نبيه بري، وإن يكن أحد المعنيين الأساسيين بحادثة الطيونة. وكان لافتاً أنّ «القوات» اصطفت إلى جانبه في الجلسة التشريعية التي أقرّت تعديلات على قانون الانتخاب، مقابل فريق الرئيس ميشال عون، في ذروة الغليان الناتج من الطيونة.
وفي السياسة، من مصلحة بري استيعاب «القوات» ليستقوي بها مسيحياً في المواجهة التي يخوضها مع عون ورئيس «التيار الوطني الحرّ» جبران باسيل، خصوصاً في السنة الأخيرة الحسّاسة من العهد، حيث هناك استحقاقان انتخابيان مصيريان. وليس من مصلحة بري أن يستفرد عون وباسيل بالساحة المسيحية وبتمثيلها أحادياً. وعلى الأرجح، هذا الأمر يؤثّر في مقاربة رئيس المجلس لحادثة الطيونة.
وللضرورات إيّاها، ليس في مصلحة الرئيس سعد الحريري ووليد جنبلاط وسليمان فرنجية تقديم هذه الهدية الثمينة لعون وباسيل. وليس مفترضاً أنّ القوى الدولية والإقليمية التي وافقت على إقصاء جعجع وعون معاً، كجزء من مقتضيات تلزيم لبنان للرئيس حافظ الأسد بعد «اتفاق الطائف»، تمتلك المبرِّرات إيّاها اليوم.
ومن هذا المنطلق، يجدر التفكير ملياً في موقف «حزب الله». فليس من مصلحة «الحزب» وعون تصوير جعجع مسيحياً مضطهداً، إذا لم يكن الأمر سيقود سريعاً إلى تطويقه وإضعافه فعلاً. ففي البيئة المسيحية، المضطهد هو البطل الذي يستقطب الجميع. وبالإضطهاد، سيستقطب جعجع المترددين أيضاً وحتى العونيين، ويكتسح الحالة المسيحية.
إذاً، واقعياً، مسألة الطيونة ستبقى مفاعيلها مضبوطة. وفي النهاية، نجح «حزب الله» في إقامة متراس منيع يحول دون استكمال التوغُّل في دهاليز ملف 4 آب المزعجة. وستتمّ اللفلفة على الأرجح في شكل دراماتيكي.
صارت المعادلة: نحن أيضاً عندنا شهداء ومصابون، وعندنا القدرة لإظهار أنّ جعجع ضالع في ملف الطيونة. ولا يمكن القبول بقضاء استنسابي: يكون نزيهاً إذا كان المحقق العدلي يعمل لمصلحتكم، ويكون مسيَّساً إذا كان القضاء العسكري يعمل ضدكم!
وعلى أرض الواقع، يواجه جعجع اليوم اتهاماً بالانتقائية. فهو يرفض المثول للإدلاء بإفادته في ملف الطيونة إلّا إذا سبقه إلى ذلك الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله، فيما هو يطالب خصومه بالحضور لدى القاضي طارق البيطار في ملف المرفأ، ويأخذ عليهم تشكيكهم بنزاهته ومطالبتهم باستدعاء آخرين كشرط للحضور.
لقد نجح خصوم جعجع، وببراعة، في حشره ودفعه اضطرارياً إلى هذه الانتقائية. والآن، باتت في يد «حزب الله» ورقة قوية هي الطيونة. وهو سيبيعها سياسياً لمرجعيات روحية وسياسية مسيحية، وللقوى الخارجية الحريصة على استقرار لبنان. والثمن سيكون: «إنسوا ملف المرفأ. إن عُدتم عُدنا».
قد لا تكون الفرصة متاحة للحقيقة في ملف المرفأ أكثر من الفرصة التي أُتيحت في ملف اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وعلى رغم العواصف العاتية التي شهدها التحقيق ثم المحاكمة، والتي انتهت في فنجان. في أحسن الحالات، «عيّاش» آخر.
رائحة التسويات ربما بدأت تفوح. الرحمة للضحايا والعوض بسلامة القضاء... والقدَر!