كأنّ الحكومة التي انتظرها اللبنانيون لأكثر من عام، وتعطّلت بعد شهر واحد من ولادتها الميمونة، وشُلّت عن العمل بقرارٍ من "عرّابيها"، لم تكتفِ بعد من المشاكل، حتى جاءتها "أزمة" تصريحات وزير الإعلام جورج قرداحي، والتداعيات التي ترتّبت عنها، على صعيد العلاقات مع السعودية خصوصًا، لتزيد الطين بلّة، إن جاز التعبير.
وبمعزَلٍ عن تباين الآراء حول "حقّ" الوزير قرداحي في "التعبير" عن رأيه، من عدمه، لا سيّما أنّ التصريحات التي أثارت الجدل كان قد أدلى بها قبل تسلّمه منصبه الوزاري، فإنّ "الثابت" أنّها وضعت الحكومة في موقفٍ لا تُحسَد عليه، وهي تنشد الدعم والمساعدة والمؤازرة من المجتمع الدولي، وقبله من الدول العربية الصديقة.
وفي حين سارعت الحكومة بشخص رئيسها نجيب ميقاتي لمحاولة "احتواء" المشكل، عبر "التنصّل" سريعًا من مضمون التصريحات، والتأكيد على تطلّع لبنان إلى "أفضل العلاقة" مع دول الخليج، وفي مقدّمها المملكة العربية السعودية، بدا من حركة "استدعاءات السفراء" التي أقدمت عليها هذه الدول سريعًا، أنّ الأمور لا تسير في منحى إيجابيّ.
فهل تتجاوز الحكومة معضلة "التصريحات" التي أدلى بها قرداحي، والذي تدرّج أصلاً في موقفه، بين التمسّك بها ورفض الخضوع والابتزاز للدول والسفارات، وصولاً إلى "شبه الاعتذار" عنها؟ وإذا ما تجاوزتها أصلاً، هل يُسمَح للحكومة بالإنتاج والعمل، بعدما بات "تعطيلها" من الداخل قبل الخارج؟.
بالنسبة إلى الأزمة المستجدّة على خلفيّة تصريحات قرداحي، تنقسم الآراء حتى بين المكوّنات الحكومية، فثمّة أكثريّة سارعت إلى "التنصّل" من مواقف الرجل، كما فعل رئيسا الجمهورية ميشال عون والحكومة نجيب ميقاتي، بل محاولة "تبريرها"، لا عبر القول إنّها لا تمثّل الحكومة فحسب، بل عبر "تعمّد" الإشارة في الوقت نفسه، إلى أنّها سابقة لتسلّمه منصبه الوزاريّ، ولو أنّها نُشرت هذا الأسبوع.
وكان لافتًا كيف سارع هذا المعسكر الحكومي إلى "احتواء" الموقف منذ اللحظة الأولى لنشوب الأزمة، مع بدء "التسريبات" حول ما أدلى به قراداحي من تصريحات، والتنبؤ بردّ فعل "قوي" من جانب دول الخليج، حيث جاء موقف رئيس الحكومة سريعًا، وبعيدًا كلّ البُعد عن منطق "النأي بالنفس" الذي يُعتبَر من "ابتكاراته الشخصية"، حيث أكّد أنّ لبنان يتطلّع إلى علاقات ممتازة مع المملكة لا تشوبها أيّ شائبة.
وعلى الرغم من أنّ مواقف ميقاتي، التي أتبعها في اليوم التالي بتصريحات مشابهة، أعطاها طابعًا رسميًا، بعدما التقى رئيس الجمهورية في قصر بعبدا، لم تنجح في وضع حدّ للاندفاعة الخليجيّة، التي ترجمت استدعاءً للسفراء، يعتقد كثيرون انّها نجحت في "التخفيف" من هذه الاندفاعة إلى الحدّ الأدنى، علمًا أنّ هناك قوى تعتقد أنّ تصريحات قرداحي لم تكن تستحقّ كلّ هذه الضجة، وبدت إلى حدّ ما "ذريعة" لتبرير "النفور" الخليجي المستمرّ إزاء لبنان.
لكن، في مقابل هذا الفريق الذي سارع لاحتواء الموقف، ثمّة فريق آخر قرّر "التصعيد"، ولو "صمت" في الساعات الأولى، يتصدّره "حزب الله"، الذي أصدر بيانًا بدا في بعض جوانبه "مستفزًا" للسعوديين، سواء بوصف موقف قرداحي بـ"الشجاع والشريف"، أو برفض أيّ دعوات لإقالته، أو حتّى دفعه للاستقالة، كما طالب كثيرون من المحسوبين على المملكة، بوصف ذلك "اعتداء سافرًا" على "السيادة" في لبنان.
وإذا كان كثيرون يعتقدون أنّ "تصعيد" حزب الله الذي تأخّر أكثر من 24 ساعة جاء عمليًا ردًا على القرار السعودي "المفاجئ" بتصنيف جمعية "القرض الحسن" على قائمة "الكيانات الإرهابية" وفق تصنيف الرياض، فإنّ الخشية لدى كثيرين أن يؤدّي إلى "تأزيم" الوضع، ولو كانت مثل هذه الخشية تتعارض أصلاً مع "مبدأ" يفترض أن يكون "بديهيًا"، وهو حقّ أيّ فرد، مهما علت رتبته، في التعبير عن رأيه بكلّ حرية، ودون أي شروط.
في مطلق الأحوال، فإنّ الأكيد أنّ تصريحات جورج قرداحي، بمعزل عن أحقيتها والموقف منها، أدخلت الحكومة في موقف "حرج" جديد لا تُحسَد عليه، في "ذروة" الأزمة التي تواجهها أصلاً، وهي التي لا تزال جلساتها "مجمَّدة" منذ التباين بين أعضائها على كيفية التعامل مع المحقق العدلي في جريمة تفجير مرفأ بيروت، وفي ضوء إصرار "الثنائي الشيعي" على تنحيته، كشرط لا رجوع عنه للعودة إلى مجلس الوزراء.
وفي وقتٍ يؤكد رئيس الحكومة أنّه يجري الاتصالات اللازمة لتفعيل مجلس الوزراء، ولو كان يحاول التخفيف من وقع الأزمة، بالإشارة إلى أنّ الحكومة تواصل عملها، من خلال اجتماعات موسّعة تُعقَد بمشاركة جميع الوزراء، بمن فيهم ممثلي "الثنائي"، فإنّ علامات استفهام بالجملة تُطرَح عن "مصير" الحكومة في ظلّ هذه الأزمة، بعدما عجزت عن إظهار الحدّ الأدنى من التماسك والتضامن، عند أول "امتحان" تواجهه على الأرض.
وثمّة من يشير إلى أنّ استمرار الوضع على ما هو عليه لا يمكن أن يكون حلاً، في وقتٍ تتضاعف الأزمات التي يواجهها المواطنون، مع الارتفاع المتواصل لسعر الصرف، والتحليق "الجنوني" لأسعار المحروقات، والذي انعكس ارتفاعًا "تلقائيًا" على أسعار كل الخدمات والمواد الاستهلاكية، بما يفوق قدرة معظم اللبنانيين على "الصمود"، لا سيما أنّ كلّ ذلك ترافق مع "تغييب" الحديث عن البطاقة التمويلية، التي بدت بدورها "خديعة".
هكذا، تبدو الحكومة مرّة أخرى "رهينة" الانقسام السياسي العمودي، تارةً على خلفيّة نزاع قضائي، يريد البعض حلّه في السياسة، وعلى طريقة "الابتزاز"، وطورًا بسبب تصريحات سياسية لأحد الوزراء، يريد البعض تحويلها إلى "حرب إقليمية"، في وقت يغض الجميع النظر عن "أصل البلاء" الذي يعيش اللبنانيون تجلياته مع كل يوم، ليثبتوا أنّهم جميعًا "مذنبون"، بل "شركاء" في جريمة جرّ البلاد إلى "جهنّم وبئس المصير"!.