ملاحظة: كُتب هذا المقال، قبل أن يعتلي الوزير جورج قرداحي قمّة التلال المكدّسة بالأزمات الكبرى في لبنان البائس، مصرّاً ومكابراً على "القردحة" التي يتسلّى بها الوزير سليمان فرنجيّة بأوقات فراغه، لكنّها لا تُضيف يا صديقي، رغيفاً لجائع لبناني،ولن تُعبّد متراً لحكومة هو فيها لم تجتمع حول طاولة بعد. ولعمري أنّ ما يحصل لن يُضيف حبّة خردلٍ للبنان أو لحزب الله أو للقرداحة. هو الإعلام في لبنان يا شباباً، وعليكم وزراء ومسؤولين أن تفيقوا وتلتحفوا الصمت والتفكير والعمل الجاد والرصين لا الركض والتنافس والتدافش سباقاً نحو أضواء الشاشات وساحاتها في وطنٍ يتفتّت بشعوبه في العتمة.
وبعد....إلى المقال الذي بدّلت عنوانه:
نقاشات لا تنتهي دارت منذ ربع قرن، مع أكثر من وزير إعلامٍ في لبنان، أرّقتهم سلطات الإعلاميين الخفّاقة عالياً جدّاً في لبنان.هوى معظم "المعالي" رافعين أصابعم العشر. عندما تمّت مناقشة ورقة مشروع قانون تنظيم الإعلام المرئي المسموع ( لا إعادة التنظيم كما ورد خطأً في اتفاق الطائف) في فندق الكارلتون منذ ربع قرن، أصرّ الوزير ألبير منصور بأن يستهل النص، وهو على حق، بما يلي: الإعلام اللبناني حرّ.
مؤخّراً أُثيرت إشكالية بسيطة بين دائرة من دوائر القصر الجمهوري وإعلامية في شاشة "الجديد" التي شاءت النفخ في جمر الكور. ناقشتها هاتفياً مع الوزير جورج قرداحي فور تسلّمه مهامه. قال بأنّه سيقرأ قوانين الإعلام في لبنان أوّلاً بهدف إيجاد الحلول. قلت بأن الإعلام لم يعد اليوم نصوص قوانين أو سلطة رابعة، فقد يسقط وزراء بل وزارات، لكنّ الإعلاميات والإعلاميين باقون أصحاب مولّدات الكهرباء الإجتماعية في لبنان، يصعب اسقاطهم أو محاصرتهم وحتّى مقاضاتهم، وتحديداً في أزمنة العولمة وفضاءات الإنفتاح والصحافة الإستقصائية والتواصل الإجتماعي.
لم أترك شاردة وواردة في لبنان إلاّ وفككتها قبل قرنين ونصف مع الطلاّب الجامعيين في كليّة الإعلام الذين تسلّموا تباعاً مسؤوليات كبرى في لبنان والوطن العربي وحتّى وزارة الإعلام في لبنان وآخرهم كان الوزيران ملحم رياشي وقبله مي الشدياق. نشرت مرجعاً بعنوان:" الإعلام وانهيار السلطات..."، خلاصته أنّ الإعلام في لبنان يتأرجح دوماً بين إعلام الحروب وحروب الإعلام واعلام السلام بعدما تقاسمته الأحزاب والمذاهب دافنين مونتسكيو وديمقراطياته مجدّداً، ومهشّمين السلطات التشريعية والإجرائية والقضائية حيث لا فصل ولا تعاون ولا توازن في ما بينها إلاّ في النص البائد.
نعم. سقطت السلطة الرابعة وصار الإعلام "سلطة السلطات" في جمهورية المصالح والكيديات السياسية والطائفية المتفجّرة، يديرها الإعلاميون ويجابهون من لا يلاطفها في الداخل والخارج. تكمن العلّل بالطبع في ممارسة الديمقراطيات المجوّفة لتضع لبنان أمام حروبٍ أهلية جديدة مقيمة في الوسادة المحشوّة بالنفورٍ والضيق الطافح منّا في المحيط العربي والعالمي.
بصراحة. لم تكن الصحافة اللبنانية المعاصرة لبنانية. كانت وما زالت مواقد لمعظم الأوطان الأخرى عربية وغيرها، ويكفل الدستور حريتها. وبالرغم من هذه الكفالات، لم تكن حرّةً كثيراً بقدر ما كانت مرهونةً لأصحاب الأموال والثروات والأنظمة ، لا بل مستأجَرة منهم. كان لا يمكن للصحافة بمعناها الواسع أن تخالف عقود الإيجار لأن على المأجور، عقاراً كان أم إنساناً، أن ينفّذ الشروط السريّة والعلنيّة المتّفق عليها في العقد.أجازف بتشبيه غالبية قادة وإعلاميي الصحف اللبنانية والشاشات والإذاعات بسائقي السيارات الخاصة السوداء التي يقودونها ويركنونها ظاهرياً بحريّة مصدّقين حبرهم وحرّياتهم عندما يوجّهونها بأيديهم وأرجلهم وعيونهم، لكنهم ليسو أحراراً لأنّ معظم حركاتهم تأتيهم همساً لطيفاً، ولربّما أمراً من أسيادهم الأثرياء على المقاعد الخلفية. وأُتابع: إنّ العديد من الإعلاميين يقدمون برامجهم ويلحّنون الأخبار والوقائع والأحداث بصفاتها وجهات نظر ومواقف متنافرة تُجهّز للمموّلين لا للقرّاء ولا للسامعين والمشاهدين.
تكاد لا تُحصى في بلدنا طرائق معالجات الأخبار المتناقضة، والتعتيم على النشر لحقائق كانت وما زالت تؤكد رضوخ الصحافة اللبنانية، في مجملها، للمال والجاه لا للحرية والحقائق. قد يتضح هذا الأمر بالتذكير بمواثيق الشرف التي كانت تحظّر، في لبنان، التعرّض للمصارف والملوك والرؤساء والدول، بينما كنّا نراها تحظّر، في دول أخرى، من التعرّض للجيوش، وأمن هذه الدول، أو إلى المقدسات الدينية، باعتبار أن الدين لا يتعاطى في الشؤون السياسيّة ، وإن كان معظم رجال الدين في لبنان لا يتعاطون إلاّ في السياسة متحصّنين بالأديان.
أنسينا أنّ هناك زواجاً تاريخيّاً بين مقولتين : وقف الحملات الإعلامية و/إو وقف إطلاق النار.
كيف نفهم الصحافة اللبنانية الحرّةإذن، إذا كان يُحظر على الصحافة وما زال، تناول الأنشطة المالية والدينية والسياسيّة والأنظمة ومسؤولي الدولة؟
هكذا نشأنا في لبنان، إذن، على صحافات تغطّي السياسات وتسبقها وتُقاضيها. وقد تجد عندنا برنامجاً سياسياً أقوى من الدولة نعم أقوى منها كلّها بسلطاتها في جمهورية "الميديا ستيت" أو جمهورية الألف إعلامي وإعلامي واحد ودونه واحد أو إثنان أو ....
عمرها لم تكن الصحافةً عندنا سياسية أو رسولية. كان الاعلام الرسمي، مثلاً، يبخّر الحكام، ويُمجّد عظماءهم وعظمتهم من جهة، ويتجسّس على الناس ويروّض الصحافة والصحافيين لمصلحة الحكام والمحيط الثري. توسّع الإعلام وسبق العصر، لكنّه ما زال ينطبق عليه تسمية إعلامَ المزارع المذهبية لا الذهبية أعني إعلامَ الدولة العادلة والمؤسسات النظيفة والجماهير المتساوية الحقوق والواجبات.
ماذا قدّم الإهلام الرسمي على صعيد الإرشاد والتوجيه؟
وما هو المشروع الاعلامي الذي قدّمته وزارة الاعلام للناس خلال خمسين عاماً؟ وأين هو الكتاب الذي وضعه وزارء الإعلام بمتناول الناس غير خطبهم أو خطب وكلمات و"ألبومات" صور الرؤساء والوزراء ؟
لم يُمنح المحرِّر والكاتب اللبناني المطلع والمثقف واللغوي البارع أيّ اهتمام. ما زال يُسمّى الصحفي "الأجير" في قانون العمل اللبناني، مثل عمّال الأفران، غير أن هؤلاء يصنعون الخبز، لكن الدولة أضعف وأكثر طائفية أمام قوّة الصحافة التي تعرّي الوقائع ليصبح العيش نوعاً من الإنهيار الدائم في الجمهورية المُفتتة.
تمسّك أصحاب الصحف تاريخياً بصحفهم بسبب القانون الذي سهّل ثراءهم. وكان العقار الإعلامي والأرضي صنوان، ولأنّ الشراكة والعجز الفاضح للدولة في تطبيق قانون الكشف على الحسابات الماليّة جعل الجريدة التي كانت تطبع مئات النسخ من العدد الواحد، لا توزع أكثر من سبع نسخ: واحدة لصاحب الجريدة، والثانية لسكرتيره، والثالثة للمحرر، والرابعة للمحاسب، والخامسة "لفراش" العمارة، والسادسة لوزارة الانباء لحفظ الامتياز بحقوقه الكاملة، والسابعة للأرشيف، بينما كانت تُباع الكمية اشتراكات للدول المُغذّية.
كيف عاشت صحف من هذا النوع...؟ وكيف تعيش وسائل الإعلام والإعلاميين؟
لا جواب. لكن سألني وزير إعلام: ساعدنا. كيف ننظم الاعلام؟
قلت: بإلغاء وزارة الإعلام وكلّ إعلام رسمي وبضبط الألسنة بالتعقّل والحكمة. لم تعُد تُبنى الأوطان بالإعلام ورخاوة مفاصل المسؤولين في الكلام، وإلاّ ما الفرق بين مشاعات الفايسبوك والتويتر والواتس آب ومناعات حاملي الألقاب في الحكم والأحكام.