إثر مقتل رفيق الحريري في العام 2005 بأيدٍ «إسرائيلية» ورعاية أميركية (على حدّ ما فصّل مؤخراً في كتاب «النفاق الأميركي» الذي توزعه «شركة الشرق الأوسط لتوزيع المطبوعات» )، إثر ذلك خرجت سورية من لبنان وبرزت السعودية وكأنها الولي والوصي عليه ولاية أو وصاية تمارس عبر ما أسمي «جماعة 14 آذار» المعادية للمقاومة ولمحورها والرافضة بإملاء أميركي «إسرائيلي» لأيّ دور أو أثر لكلّ من سورية وإيران في الساحة اللبنانية. في هذه البيئة خيضت الانتخابات النيابية في لبنان في العام 2005 و»نجحت» جماعات السعودية وأميركا في الإمساك بأكثرية نيابية مكّنتها من تشكيل حكومة تدير ظهرها لرئيس الجمهورية وتحكم منفردة حتى ومن غير وجود وزراء شيعة فيها.
بيد أنّ الهيمنة السعودية على الوضع اللبناني تحت وصاية أميركية تامة، والتي مارسها آنذاك السفير الأميركي جيفري فيلتمان لم تستقرّ لأكثر من ثلاث سنوات، حيث انتهت مع الانفجار الداخلي الذي حدث في 7 أيار 2008 إثر قرار غبي وقح اتخذته الحكومة العاملة بإشراف، لا بل بأوامر سعودية، قرار رمى إلى نزع سلاح الإشارة من يد المقاومة كمقدمة لتجريدها من كامل السلاح الذي عجزت «إسرائيل» في حرب/ عدوان 2006 عن تنفيذه، وإثر هذا «اليوم المجيد» الذي عطلت فيه المقاومة تنفيذ قرار يستهدفها، عقد مؤتمر لبناني في قطر لوضع أسس الخروج من الأزمة في لبنان.
كان مجرد انعقاد المؤتمر في الدوحة إشارة إلى بدء تراجع النفوذ السعودي في لبنان، تراجع ترجم في أمرين: فشل في مواجهة المقاومة، ودخول قطري على الخط اللبناني. مشهد لم يكن مريحاً للسعودية في أيّ حال، لكنها تعاملت معه كأمر واقع ترجم بعد ذلك بالزيارة المشتركة التي تمّت في تموز/ يوليو من العام 2010 إلى لبنان، والتي قام بها الملك السعودي عبدالله والرئيس السوري بشار الأسد، زيارة عَوّل عليها الكثيرون بأن تكون فرصة لإرساء الاستقرار اللبناني بعد 5 سنوات من القلاقل والنزاعات التي تتفجر على الساحة اللبنانية.
لكن الآمال اللبنانية لم تتحقق إذ إنه ومع شنّ الغرب وبمشاركة إقليمية وسعودية الحرب الكونية على سورية بدءاً من آذار العام 2011، انقلب الوضع في لبنان وعاد الصراع عليه إلى أوجه، بخاصة أنّ الجبهة الإقليمية والدولية التي شنت العدوان، ظنت أنّ الإطاحة بالنظام السوري الذي يقوده الرئيس بشار الأسد أمر في متناول اليد وفي أشهر لا بل أسابيع قليلة لا تتجاوز عدد أصابع اليدين، وقادت السعودية إحدى مراحل الحرب على سورية وهي مرحلة بندر.
المرحلة الثانية التي أعقبت مرحلة الإخوان المسلمين التي آلت إلى الفشل بقيادة تركية، وقد وجدت السعودية نفسها في الميدان في مواجهة حزب الله الذي وقف إلى جانب الحكومة السورية دفاعاً عن مصالحها التي هي مصالح محور المقاومة برمّته. وانتهت الموجة الثانية من العدوان على سورية في مطلع عام 2014 بفشل حصدته السعودية كما كانت تركيا قد حصدت في العام السابق فشلاً مماثلاً.
لم تتقبّل السعودية هزيمتها في سورية بسهولة وارتدّت إلى اليمن في عام 2015 لتفرض سيطرتها عليه باعتباره «الحديقة الخلفية للمملكة السعودية» التي يجب أن لا يشاركها في النفوذ فيه أحد، وأنشأت تحالفاً للعدوان على اليمن واعتمدت له اسماً يحاكي الاسم الأميركي لحرب الخليج «عاصفة الصحراء» وأسمته «عاصفة الحزم»، وهنا أيضاً تكرّر سوء التقدير، وبدل الأسابيع الستة التي ظنت السعودية بأنها كافية لإخضاع اليمن، استهلكت حتى الآن ستّ سنوات، أفضت إلى هزيمة استراتيجية نكراء سيكتمل مشهدها المذلّ للسعودية خلال الأسابيع القليلة المقبلة عندما يدخل أنصار الله الحوثيون مدينة مأرب ويسيطرون عليها بالتفاهم مع الأهالي ويخسر السعودي آخر معقل له في اليمن وتحلّ بالسعودية هزيمة استراتيجية كبرى.
وكعادتها نحت السعودية باللائمة على حزب الله وإيران وحمّلتهما مسؤولية فشلها في اليمن، وأجرت الطرح والجمع في الحساب فوجدت بحسب تحليلها أنّ حزب الله منعها من الهيمنة على لبنان، ودعم الحكومة السورية وساهم في منع المعتدين الذين تعمل السعودية معهم في «غرفة موك» وسواها من تحقيق أهدافهم، وأنّ حزب الله أمدّ الحوثيين بحسب قولها بالمساعدة والقدرات والخبرات وتسبّب في هزيمتها واستخلصت في النهاية أنّ حزب الله بات يشكل لها عدواً استراتيجياً من الفئة الأولى ويتقدّم عداؤه على أيّ عداء بما في ذلك العداء لإيران.
وعلى ضوء هذا الاستنتاج، صنفت السعودية حزب الله «منظمة إرهابية» وعملت مع كلّ عدو للمقاومة أو طامع بمال سعودي لمحاربة هذا الحزب وعقدت في لبنان العلاقات والتحالفات مع الذين يطمعون بمالها ويبيعونها خدمات ضدّ حزب الله. ويبدو أنها كانت سعيدة بإطلاق أميركا «خطة بومبيو» لتدمير لبنان التي تتضمّن في مرحلتها الرابعة «الانهيار الأمني» الذي يترجم بحرب أهلية تغرق حزب الله وسلاحه في وحولها وتمكّن «إسرائيل» «الحليفة للسعودية» من الدخول إلى لبنان للإجهاز عليه.
لقد انخرطت السعودية في تنفيذ «خطة بومبيو» بطلب أو من غير تكليف أميركي بعدما رأت أنّ أهدافها في لبنان يمكن أن تتحقق عبرها، وعندما أعاد الأميركي النظر بخطته إثر القرار الاستراتيجي الذي اتخذته المقاومة باستيراد النفط من إيران، بقيت السعودية على مواقفها ويبدو أنها لم تكن بعيدة، إنْ لم نقل كلاماً أكبر وأدقّ، عن مجزرة الطيونة التي نفذها حليفها الرئيسي في لبنان (القوات اللبنانية) ولما فشلت المجزرة في تحقيق الهدف وحشر رئيس القوات قضائياً فتحت دفاتر قديمة تعود إلى ما قبل تشكيل الحكومة الحالية التي شجعت أميركا وفرنسا على تشكيلها، دفاتر فيها تصريح لمن تولى حقيبة وزارة الإعلام يصف فيه حرب السعودية على اليمن بأنها حرب عبثية، قول أطلقه قبل شهر من تشكيل الحكومة، وكان كافياً بالنسبة للسعودية لقرع طبول الحرب على لبنان وسحب السفراء ومنع الواردات اللبنانية من الدخول إليها والتهديد بما هو أعظم…
أعلنت السعودية الحرب على لبنان بذريعة تصريح صحافي لشخص أطلقه قبل أن يتولى مسؤولية الوزارة، وهو أمر وتصرّف غريب ومستهجن، لكنها لم تتأخر في إعلان حقيقة الأسباب التي دفعتها إلى شنّ هذه الحرب واختصرتها بعبارة «هيمنة أو سيطرة حزب الله على لبنان»، وهي تعرف أنّ القرار اللبناني لا يتفرد بالإمساك به أحد بما في ذلك حزب الله الذي يعدّ شريكاً في القرار ولكنه ليس وحيداً فيه، ومع ذلك تشنّ السعودية هذه الحرب مع علمها، أو يجب عليها أن تعلم أنها لن تصل إلى نتيجة في المعلن من أهدافها، بخاصة أنّ حزب الله، على حدّ ما أجاب وزير الخارجية اللبناني رداً على وزير خارجية بني سعود «أنه، أي حزب الله، مكوّن أساسي من مكوّنات السياسية اللبنانية لكنه لا يسيطر ولا يهيمن على لبنان».
وهذا يؤكّد أنّ الحرب السعودية على لبنان هي حرب انتقام وكيد، تنفّذ بعد سلسلة الهزائم والفشل والعجز التي تخبّطت السعودية فيها خلال العقدين الماضيين، والتي كان آخرها فشل الآمال المعلقة على تحقيق المرفأ لتحريف الحقيقة وتطويق المقاومة، وفشل كمين الطيونة في تفجير حرب أهلية، والفشل في تحويل مَن تعوّل عليه ليكون بطلاً وطنياً ورأس حربة لها في وجه المقاومة فتحوّل أو يكاد الى مطارد فارّ من وجه العدالة.
فشل حصرت السعودية أسبابه بحزب الله، فقرّرت شنّ الحرب عليه في وضع ترى أنه في وطن بات ضعيفاً وينهار اقتصادياً ويتشتت سياسياً، فظنت أنها ستطوّعه، لكنها نسيت أو تناست أنّ في هذا البلد من القوة والبأس والعنفوان ما يمكنه من الصمود ويمنعها من تحقيق أيّ من أهدافها فيه. وإذا كانت السعودية تظنّ بأنّ حربها على لبنان ستعوّض هزيمتها في الإقليم عامة وفي اليمن خاصة فهي مشتبهة لا بل مخطئة فحربها على لبنان ستكون مدخلاً لهزيمة إضافية تلحق بها بشكل مؤكد، ولن يستطيع أن يمسّ المقاومة في لبنان أو يؤثر في مسار انتصارات محور المقاومة في الإقليم.