عندما قال يسوع: "دَعُوا الأَوْلاَدَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلاَ تَمْنَعُوهُمْ، لأَنَّ لِمِثْلِ هؤُلاَءِ مَلَكُوتَ اللهِ"(لو 18: 16)، أظهر اهتمامه بالأطفال. ولذلك نبّه تلاميذه كي يتركوا الأطفال يقتربون إليه وباركهم. كذلك أعلن الرّب حقيقةً هامّةً وهي تمايز الأطفال في طباعهم عن الكبار. فكلّ من حاز طباع البراءة والمحبة للآخرين وتقدير اهتمام من حوله، يكون من المؤهلين لدخول ملكوت السموات. إذ لم يقل المسيح "لهؤلاء الأطفال" بل "لمثل هؤلاء"، أيّ من له طباع الأطفال من الكبار وليس فقط الأطفال.
"نيّال يلي عندو بساطة الأولاد"، هذا أمرٌ يشعر به الأهل ومعلمات المدارس والحضانة، وأيضًا قادة الطفولة في الكنائس والكشافة وحتى الكهنة الذين يلمسون لمس اليد براءة الأطفال في كافة تصرفاتهم.
لا تكاد تخلو رعية من نشاطات رعائيّة وبشاريّة، تطال كافة الأعمار ولا سيّما الأولاد، وقد كان لي البركة أن أواكب عمل الأخوة أعضاء حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، في الرعايا التي أخدمها، واهتمامهم المميّز بالأولاد. ولم تمنع جائحة الكورونا من الاستمرار في القيام برعاية المنتسبين للعمل الحركي في معظم الكنائس، حتى ولو عبر وسائل التواصل الإجتماعي.
الصيف الفائت كان حافلًا بنشاطات الشبيبة ولا سيّما الأولاد منهم، ضمن الإجراءات الوقائية والصحية الملزمة. وقد كانت مناسبة أن يتشارك الأولاد بالقداس الإلهي، الأمر الذي قرّب الأولاد من الكنيسة ومن الكاهن، هذا أمرٌ ترجمه أحد الأولاد الذي لم يتجاوز الخامسة أو السادسة من العمر، عندما شاهدني مارًا أمام منزله، فتوقفت لأحيي أهله، فلقيته مسارعًا نحوي بفرح لا يوصف، ولم تعد الكلمات تخرج من فمه ليعبّر عن فرحه بمشاهدتي، فبادر تلقائيًا وقبّلني، وحضنته بفرح لا يوصف.
لم أسرد هذه القصة لمجرّد السرد، إنما لأجدّد قناعتي بقول المسيح: "دَعُوا الأَوْلاَدَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلاَ تَمْنَعُوهُمْ، لأَنَّ لِمِثْلِ هؤُلاَءِ مَلَكُوتَ اللهِ".
الكاهن مؤتمن على خلاص أبنائه، كبارًا وصغارًا، إنّما الفرق أن الأطفال يتمتعون بالطيبة والبراءة والمحبة والطهارة، ولذلك يتعزّى الكاهن بهم، وبالكبار إذا امتلكوا قلب الأطفال وبراءتهم، لا سلكوا طريق الحقد والضغائن والكبرياء. ولذلك أكّد السيد المسيح، في هذا الإطار، أهمية أن نكتسب طباع الأطفال كشرط لدخول الملكوت.
تأمل، عزيزي القارئ، صفات الأطفال القريبين منك وحاول أن تتعلم منهم شيئًا، فقد وضعهم الله في طريقك ليس فقط لتعلّمهم بل لتتعلم منهم أيضًا.
يقول القدّيس يوحنّا الذهبي الفمّ في شرحه لهذه الآية: "هكذا كرّم السيّد الطفولة إذ صار نفسه طفلًا بتجسده، والآن يطالب التلاميذ -قادة الكنيسة- أن يبلغوا مع الشعب إلى الطفولة ليكون لهم نصيب في الملكوت معهم. حقًا ذهن الطفل نقي من آلام الخطيئة، لهذا يليق بنا أن نمارس بكامل حرّيتنا ما يفعله الأطفال بالطبيعة". وإذا لاحظنا مجددًا أنّ يسوع لم يقل "لهؤلاء ملكوت الله"، بل "لمثل هؤلاء ملكوت الله"، أي للذين لهم في نيّتهم كما في تصرفاتهم ما للأطفال بالطبيعة من بساطة وعدم الأذيّة. فالطفل لا يبغض، ولا يحمل نيّة شريرة، حتى إن ضربته والدته لا يعتزل عنها، وأن ألبسته ثيابًا رخيصة يراها أفضل من ثوب الأمراء. لذلك يقول السّيد في إنجيل لوقا: "من لا يقبل ملكوت الله مثل ولد فلن يدخله".
وهنا تستوقفني قصّة فتاة لبّت دعوة كاهن الرعية مع كافة أبناء بلدتها، ليرفعوا الدعاء للرب لإرسال الأمطار بسبب جفاف أرض تلك البلدة. فما كان من تلك الطفلة إلا اصطحاب مظلّة، فتعرضت للسخرية كون الشمس ساطعة بقوة والجفاف واضح، فبادرت تلك الفتاة الصغيرة بالقول: ألسنا ذاهبين لنصلّي للرب لكي يرسل الأمطار، فطبيعي أن يستجيب لصلواتنا.
نحن في هذا البلد لن يستجيب الله لصلواتنا وينقذنا من البلايا التي ابتلينا بها، إن لم يلمس طهارة قلوبنا وتواضعنا وامتلاكنا لبراءة الأطفال. لنهرب إذًا من الكبرياء ونقتدي ببساطة الأطفال، الذين وعلى الرغم من تواضعهم يرفعهم الجميع على الأكتاف وتدللهم الأيادي. ولنتذكر أن الولد بطبعه ضعيف ولذلك نرى الكلّ بخدمته. ولأن الطفل بريء فهو محبوب من كلّ الناس، وببرائته وطيبته يقضي على قوة الشّر في هذا العالم.
فأعطنا يا رب أن نعود أطفالاً من الدّاخل؛ أن نمتلك قلب طفل ونظرة طفل وبراءة طفل، كي يكون لنا المَلَكوت.