من يتابع مسار الطلبات السعودية من لبنان يدرك من غير جهد أو عناء أنّ المسألة تتعدّى لفظاً أو عبارة أو موقفاً اتخذه شخص بصفته الإعلامية قبل أن يكون وزيراً في حكومة جهدت السعودية لمنع تشكيلها. فالسعودية تريد بكلّ وضوح معاقبة حزب الله وفرض وصاية على لبنان تعوّض عليها خسائرها الاستراتيجية الكبرى في الإقليم عامة وفي اليمن بشكل خاص، وتضع لبنان أمام خيارين أمام الاستسلام مع التسليم بالوصاية السعودية أو الحصار المتعدّد الأشكال والأطراف بقيادة سعودية.
لقد تعدّدت الطلبات السعودية من لبنان بشكل تصاعدي من دون أن تقدم السعودية على أيّ بادرة حسن نية تجاه حكومة لبنان التي شكلت بعد سنة من التعثر وتعطيل التشكيل، التعطيل الذي أسهمت السعودية بجزء كبير منه، وتصرفت السعودية تجاه لبنان تصرف المنكر للدولة والمعرض عن الاعتراف بسلطتها، وامتنع سفيرها في بيروت عن إجراء أيّ اتصال رسمي أو حتى شخصي مع أيّ مسؤول في الحكومة والإدارة اللبنانية، في حين كثفت اتصالاتها علناً أو سراً بقوى وكيانات حزبية تعارض الحكومة وترتكب بحق الأمن والسلم الأهلي اللبناني الجرائم والموبقات ثم يظهر السفير السعودي في بيروت معها وفي مقارها ومراكزها.
ولو كانت السعودية تعترف بأنّ لبنان دولة مستقلة جديرة بالتعامل الندي معها، لكانت تصرفت معه خلافاً لما تقوم به الآن ولكانت سعت إلى حلّ أيّ مشكلة أو شبهة تمسّ العلاقات البينية معه بالحوار والتعاون، والكلّ يعلم أنّ جميع المسؤولين اللبنانيين المتولّين شأناً من شؤون السلطة في لبنان يتوقون إلى أفضل العلاقات مع السعودية، وليس من فراغ أن نجد العماد ميشال عون يفتتح بعد انتخابه رئيساً للجمهورية زياراته للخارج بزيارة السعودية.
بيد أنّ السعودية ومنذ نيّف وخمس سنوات تقريباً تزداد للبنان جفاء وعنه ابتعاداً في كلّ مرّة ترى فيها مسؤولي لبنان يشتدّون إليها رغبة وتودّداً حتى بلغ فيها الأمر حداً لا تتواصل فيه مع أيّ مسؤول في السلطة اللبنانية ثم تتخذ القرارات الأحادية الجانب ضدّه فتكون بمثابة عقوبات تفرض على لبنان لا تستقيم شأناً وتبريراً مع طبيعة العلاقات بين دولتين عربيتين شقيقتين.
إن المتابع للسلوك السعودي حيال لبنان بإمكانه أن يدرك مستوى التكبّر والاستعلاء والنزعة إلى مصادرة القرار اللبناني برمته حتى يكاد المراقب يعتقد بأنّ السعودية باتت تفرض صراحة وضمنياً على أيّ مرشح لمنصب حكومي إداري في لبنان الحصول على شهادة حسن سلوك وبيان سجل عدلي مذيّلين بتوقيع سعودي، فإن شاب تاريخ الشخص شائبة بتقدير السعودية فإنه يُقصى عن المنصب المرشح إليه والأمر ذاته يفرض كما يبدو أيضاً بالنسبة للمواقف ومواطن إبداء الرأي من المسائل العامة محلياً وإقليمياً، حيث ترى السعودية أنّ عليه أن يستحصل على موافقتها قبل صدور أيّ بيان أو تصريح يتصل بسياستها.
هذا على صعيد سلوك الأشخاص، أما على صعيد مواقف المكوّنات السياسية والأحزاب العاملة في لبنان فإنّ السعودية ترفض منهم أيّ مواقف لا يؤيد سياستها في الإقليم حتى ولو كان موقفها بنظر الآخرين عدواناً على الغير، وللتوضيح أكثر ترفض السعودية تأييد حزب الله الحزب اللبناني، وهو ذو الباع الطويلة في المقاومة والتحرير في لبنان والإقليم، ترفض تأييده لأنصار الله الحوثيين الذين يشكلون مكوّناً أساسياً من مكونات الشعب اليمني ويرون أنهم اعتُدي عليهم من قبل السعودية وحلفائها فاتخذ قراراً بالدفاع عن نفسه في اليمن وعن اليمن بوجه العدوان الذي نفذته السعودية التي شكلت الأحلاف وأرسلت الجيوش لنصرة “الشرعية” في اليمن كما تزعم، وهي “الشرعية” التي كما يعلم الجميع انتفت صلاحيتها وانصرمت ولايتها قبل أشهر من التدخل السعودي في اليمن وهي في كل الأحوال شأن محلّ نزاع وخلاف في اليمن بين قابل بها ورافض لها.
إنّ من مصلحة لبنان أن يكون على علاقات ممتازة مع كلّ الدول العربية وفي طليعتها سورية والسعودية، لكن المفارقة تبدو في تصرّف الحكومة اللبنانية أو لنقل الأداء والقرار الرسمي اللبناني حيث أنه يتجه إلى جفاء وشبه قطيعة مع سورية على رغم اليد السورية الممدودة للبنان والحرص السوري على أمنه ومصالحه، في حين نجد استماتة لبنانية في استرضاء السعودية المتشدّدة في مواقفها ضدّ لبنان، وهنا تبرز مجدّداً النكتة السمجة “النأي بالنفس”، التي يعرض عن العمل بها إذا كانت تمسّ مصلحة سعودية حتى ولو كان الموقف لسعودي ظالماً، ويعمل بها إذا كانت تعني سورية حتى ولو كانت سورية مظلومة.
إنّ لبنان اليوم في علاقته مع السعودية لا بل في مواجهة الافتئات السعودي عليه أمام تحدّ كبير سيترتب عليه الكثير من النتائج والمفاعيل وعلى الوجه التالي:
1 ـ مسألة الطلب من وزير الإعلام جورج قرداحي الاستقالة عقاباً على جرم لم يرتكب ومساءلة عن خطأ لم يقترف بحق أحد، فإننا نرى أنّ الاستجابة لا بل الرضوخ لهذا الطلب فيه ذلّ وخنوع وخضوع، وتنازل عن القرار الوطني المستقل والكرامة الوطنية، وإنّ استقالة الحكومة برمتها ستكون أفضل ألف مرة من استقالة أو إقالة الوزير. ثم من يضمن بعد هذه الاستقالة أن تحجم السعودية بسبب أو من غير سبب عن التدخل في كلّ شاردة وواردة متصلة بقرار أو موقف لبناني تحت طائلة القطيعة؟
2 ـ مسألة أداء حزب الله ودوره بشكل عام. نرى أنّ السعودية في ما تطلب تقوم مقام “إسرائيل” التي عجزت أمام الحزب في حرب شنتها عليه في عام 2006 وأنها تطلب أمراً مستحيلاً سلّم الجميع باستحالته، فإذا كان ثمن العلاقة مع السعودية إلغاء المقاومة في لبنان لاستباحته أمام “إسرائيل” فإننا لسنا مستميتين في السعي لإقامة هذه العلاقة، أما إذا كانت العلاقة علاقة أنداد ـ أشقاء ترسم باحترام متبادل وبحرص أكيد على الكرامة والسيادة فإننا أول الساعين والداعين إليها.
وعلى هذا الأساس نرفض الحلول الترقيعية التي يسعى إليها بعض ممّن أنس دعماً من الخارج وجاء ليروّج لحلول تهدر الكرامة اللبنانية من دون أي طائل وتغري السعودية بمزيد من العدوان على لبنان والنيل من استقراره ونحذر من تمرير ذلك، ونطالب بفتح حوار جادّ بين لبنان والسعودية يفضي إلى تنظيم العلاقات الثنائية بينهما على أساس القواعد والمبادئ التي تحفظ حقوق الجميع ومصالحهم، وحذار حذار من التنازل والانبطاح لأنّ في هذا إغراء للسعودية وغيرها لتكون أكثر عدوانية ضدّ لبنان.