إمتزجَ ملف التحقيق في انفجار مرفأ بيروت بـ"صواعق" سياسية وأمنية وقضائية وقانونية، ما أدى إلى تعقيده وتداخله مع مجموعة هواجس ومخاوف وحسابات ومصالح، حتى اختلط الحابل بالنابل والصالح بالطالح.
إنهمرت الدعاوى المتبادلة من كل حدب وصوب على القضاء الذي تحول مسرحاً لمعركة طاحنة في القانون والسياسة، فيما القضاة المعنيون بَدوا وكأن بعضهم أصبح خصما للبعض الآخر ومتربّصا به، ما حوّلهم جزءا من الاصطفاف الحاد.
الغسيل يُنشر على سطوح العدلية في وضح النهار، والسلطة القضائية تتوزّع مَحاور وولاءات تحت وطأة التجاذبات السياسية والطائفية التي لفحتها، حتى بات القانون مجرد وجهة نظر بدل ان يكون الفيصل في بَت النزاعات والخلافات.
ولئن كان مؤيدو المحقق العدلي طارق البيطار يحذّرون من محاولات تجري لمحاصرته والانقلاب عليه من خلال «حصان طروادة» قضائي يَتمثّل، في رأيهم، بالقاضي حبيب مزهر المدعوم من حركة «أمل» و«حزب الله»، والذي حاول وقف عمل البيطار، الا انّ المُرتابين في سلوك المحقق العدلي يعتبرون من جهتهم ان مزهر يتعرض لحملة عشوائية وشعواء لتشويه صورته ودوره، لأنه التزم الأصول بلا مسايرة لأحد، وسعى الى تصويب المنحى القضائي الذي يتخذه التحقيق في قضية انفجار المرفأ بعيداً من التسييس، ما أزعج المستثمرين في هذه القضية لتحقيق مكاسب سياسية.
وبعد دعاوى الرد والارتياب التي رفعها المدعى عليهم في قضية انفجار المرفأ في حق المحقق العدلي، بدأ المتعاطفون معه ووكلاء بعض الضحايا بشن هجوم مضاد عبر تقديم شكاوى ضد مزهر لدى مجلس القضاء الأعلى وهيئة التفتيش القضائي، طالبين إنزال أشد العقوبات به، بتهمة تَعمّده ارتكاب أخطاء ومخالفات جسيمة، من بينها قراره بكف يد البيطار مؤقتاً ومحاولته التسلل عنوة وبطريقة غير شرعية الى ملف التحقيق الذي لا يقع، وفق رأيهم، ضمن صلاحياته.
اما بالنسبة إلى المحور الآخر، فقد رفع النائبان علي حسن خليل وغازي زعيتر الى محكمة التمييز دعوى مخاصمة ضد الدولة اللبنانية، في حين تقدّم الوكيل القانوني للوزير السابق يوسف فنيانوس بدعوى رد القاضية روزين الحجيلي، المستشارة في هيئة محكمة الإستئناف في بيروت الناظرة في دعوى رد البيطار، والتي يترأسها بالإنتداب القاضي مزهر بدلاً من القاضي نسيب إيليا.
وبينما يؤكد مناصرو المحقق العدلي انه يؤدي عمله بنزاهة تامة وان هناك معيارا موحدا يستند اليه في ملاحقته للمدعى عليهم، وهو عِلمهم المُسبق بوجود نيترات الامونيوم في المرفأ عبر المراسلات او غيرها، يُنقل عن مرجع سياسي قوله في المقابل: «البيطار مسَيّس حتى كوعه وهو يستهدفنا، واذا كان لديهم البيطار فإنّ لدينا مزهر».
وضمن هذا السياق، تعتبر اوساط سياسية مسيحية قريبة من 8 آذار أن هناك تطييفا مقصودا للانفجار والتحقيق «حتى تظهر المواجهة وكأنها بين المسيحيين والشيعة، استكمالاً لمخطط مُتنقّل ويتخذ أشكالا مختلفة، من المرفأ الى الطيونة، وذلك خلافاً للمسار التاريخي الذي يُبيّن انه لم يحصل ان وقعت مواجهة مباشرة بين الجانبين».
وتلفت الاوساط الى ان مؤشرات التطييف المدروس تتمثّل في الآتي:
- الترويج المتواصل وغير البريء أن الانفجار استهدف منطقة معينة حصراً وان الضحايا هم من لون محدد.
- هوية المحقق العدلي الأول والثاني، وكذلك القضاة الذين أحيلت اليهم طلبات الرد والارتياب المشروع.
- تلاقي «القوات اللبنانية» و»لتيار الوطني الحر» عند الدفاع عن البيطار على رغم كل ما يفرّقهما.
وتشير الاوساط الى ان المشكلة مع البيطار تشمل حركة «أمل» وتيار «المردة» وتيار «المستقبل» ودار الفتوى وجهات أخرى، فلماذا اختزال الأزمة معه بـ»الحزب» فقط وإغفال مواقف الآخرين التي لا تقل حدة في الاعتراض على سلوك المحقق العدلي؟
وتستنتج الاوساط ان المقصود من تركيز التصويب على «حزب الله» في شكل اساسي هو وضعه والمكوّن الذي يمثّله في نزاع حاد مع المكون المسيحي، انطلاقاً من قضية مُرهفة وتنطوي على تأثير كبير في الوجدان الشعبي، وصولاً الى نزع الغطاء المسيحي عن «الحزب» في الانتخابات المقبلة.
وتوضح الاوساط ان «حزب الله» يشعر بأنّ هناك من يحاول بكل الوسائل استدراجه إلى أمكنة توحي أنه يشكل خطرا على المسيحيين ويتسبّب في إيذائهم، عبر السعي تارة الى توريطه في قضية المرفأ وطوراً الى تحميله المسؤولية عن أحداث الطيونة، في حين انه هو الذي دعم وصول الاقوى مسيحياً الى رئاسة الجمهورية، وذهب مع حليفه البرتقالي الى أبعد الحدود في معركة استعادة التوازن داخل الحكومات على رغم امتعاض حلفاء وأصدقاء له، ودعمَ قانون الانتخاب الذي يسمح للمسيحيين بأفضل تمثيل في مجلس النواب.
وتشير الاوساط إلى ان القاضي مزهر ربما يكون قد أخطأ في اجتهاده وربما لا، لكنّ ذلك لا يبرّر حجم الهجوم عليه، والذي يُراد منه منع وصول الملف إليه، حتى يبقى تحت السيطرة والتحكم.