ما كانت منظومة السلطة في لبنان تخبِّئه للانتخابات النيابية، تحت ستار المناورات السياسية والأمنية والقضائية، فضحته مجريات الحدث العراقي. فهذه الانتخابات إما أن تكرِّس السيطرة على البلد لسنوات مقبلة، وإما أن «تَطير» إلى أجل غير مسمّى. ومن له أذنان سامعتان فليسمع... دويَّ انفجار المسيَّرات في بغداد!
هواجس «تطييرِ» انتخابات الربيع، التي لطالما عبّر عنها المحلِّلون، ثَبُتَ اليوم أنّها في محلِّها. فمحاولة اغتيال رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي جاءت لتقطع الشكّ باليقين، انطلاقاً من التوازي الدقيق للمسارين العراقي واللبناني، خصوصاً في العامين الأخيرين:
في البلدين عناصر الأزمة هي نفسها، حتى بالأسماء والهويات وطبيعة النزاع بين المحاور الإقليمية والدولية. وحتى انتفاضة 2019 هي نفسها اندلعت تزامناً في الخريف. وحتى تركيبةُ الحكومات وأزماتُ السلطة هي نفسها، والفسادُ والفقرُ والجوعُ مقابل الدولة المنهوبة هنا وهناك، والميليشيات التي تعمل خارج الدولة وداخلها في آن معاً… أو هي الدولة أيّاها. ولذلك، تطرأ التحوُّلات هنا وتتكرّر هناك، أو العكس.
من هذه الزاوية، يجدر الاستنتاج أنّ ملامح العنف السياسي والأمني التي ظهرت في لبنان خلال الأسابيع الأخيرة، على خلفية ملفات المرفأ وخلدة والطيونة والانتخابات وسواها، شكّلت بدورها إشاراتٍ إلى عنفٍ سيشهده العراق على خلفية الانتخابات. وشرارة هذا العنف محاولة اغتيال الكاظمي. واستتباعاً لمشهد العنف العراقي، يمكن تَوقّع ما سيجري في لبنان، وخصوصاً في المحطة الأخطر، أي الانتخابات.
في العراق، شكَّلت الانتخابات صدمةً لإيران وحلفائها. فقد وجدت نفسها في زاوية محرجة: إما أن ترضخ لهزيمة مشروعها الإقليمي وإما أن تقاتل. وليس منطقياً أن يعتقد خصوم إيران أنّها ستستسلم في العراق، لا باللعبة الانتخابية ولا بأي وسيلة أخرى.
فنفوذ طهران على العواصم العربية الأربع، بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، غير قابل للنقاش بالنسبة إلى قادة الثورة. وبأي ثمن، وأياً تكن المبرِّرات، يجد الإيرانيون أنفسهم مجبرين على خوض المعركة لتثبيت السيطرة.
وسيواجه حلفاء إيران المحليون أي عملية «تغيير» بما امتلكوا من وسائل، سواء في العراق الذي يشكّل ركيزة الهلال الشيعي لجهة الشرق، أو في لبنان رأس الهلال لجهة الغرب، وبينهما سوريا.
حاول الإيرانيون إطالة فترة صدور النتائج النهائية، من خلال إعادة الفرز والعدّ اليدوي، لعلّ ذلك يتيح المجال لدخول عناصر أخرى، سياسية وغير سياسية على اللعبة، واقتناع الخصوم بتبديل النتائج. لكن ثبات هذه النتائج وقرب صدورها رسمياً ربما دفعا المحور الإيراني إلى استخدام الخيارات الأكثر حزماً.
يقول الكاظمي إنّه يعرف تماماً هوية الذين حاولوا اغتياله. ومن الواضح أنّه يقصد إيران، على رغم عدم ظهور إشارات علنية تؤكّد ذلك حتى الآن. لكن خصوم طهران في العراق يجزمون أنّها هي المسؤولة، ويتوقعون المزيد واحتمال ذهاب العراق إلى مزيد من العنف والفوضى.
هذا المناخ يعني في لبنان أنّ انتخابات الربيع ستكون بين خيارين: إما أن تُحسم النتائج لمصلحة حلفاء إيران، وإما أن تؤجَّل إلى مواعيد غير معروفة. وهذا يرجّح بقاء الحكومة الحالية… إلاّ إذا فرضت الظروف على ميقاتي أن يدخل في مواجهة عاتية مع «حزب الله» وحلفائه على خلفية «أزمة قرداحي». وعندئذٍ، ستكون قائمةً كل المبرِّرات لـ»تطيير» الانتخابات الرئاسية أيضاً.
بعد الدرس العراقي، ستراجع إيران حساباتها في لبنان بدقَّة، ولن تغامر بإجراء الانتخابات إذا لم تضمن نتائجها. وسيكون عليها أولاً أن تقاوم الضغوط الدولية والعربية التي تريد الانتخابات لتحقيق التغيير، أي رفع النفوذ الإيراني عن القرار المركزي.
حتى آذار 2022، المسافة 4 أشهر. وهي فترة قصيرة جداً إذا قيست بحجم الأزمات التي تعترض إجراء الانتخابات. فهناك النزاع الدائر داخل منظومة السلطة نفسها حول القانون، وربما يكون بعضه مفتعلاً لإبقاء ذريعة «التطيير» قائمة. وهناك الاهتراء المالي- النقدي- الاقتصادي- الاجتماعي الذي بلغ حدوداً لا تسمح للدولة وأجهزتها بإدارة العملية الانتخابية لوجستياً ولا للناخبين بالتحرّك يوم الاقتراع.
وهناك هواجس الأمن والفتنة التي عادت تطلّ بقوة من نوافذ مختلفة، في شارع محتقن جداً، وعلى «خطوط التماس» الطائفية والمذهبية القديمة. وتُضاف إلى ذلك طبعاً هواجس العودة إلى الاغتيالات، التي أطلَّت مجدداً من نافذة «المنطقة الخضراء» في بغداد.
في لبنان، لا يمتلك خصوم طهران قرار إجراء الانتخابات النيابية. لكن القوى الدولية والعربية ستزيد الضغوط لتشجيع انتفاضهم على إيران. وهذا ما سيلهب المواجهة على الأرجح، لكنه لن يجدي في منع «تطيير» الانتخابات، لأنّ حلفاء طهران يتحكّمون تماماً بالسلطة.
وفي أحسن الحالات، لو أُجبر هؤلاء على إجراء الانتخابات في لبنان، فإنّهم لن يسمَحوا بتكرار النموذج العراقي. وإذا حدث ذلك، رغماً عنهم- وهذا أمر صعب جداً- فإنّهم سيواجهون نتائج الانتخابات كما يفعلون اليوم في العراق، إذا اضطروا، أي بالعنف.
وهكذا، فإنّ هواجس التطيير تعصف بالانتخابات، أو هواجس العنف في حدوده القصوى، كما في العراق كذلك في لبنان وسائر ساحات المواجهة التي تخوضها إيران على رقعة الشرق الأوسط… إلّا إذا حدثت المعجزة، وتمّ الاتفاق بين الإيرانيين والأميركيين حول النووي ومستتبعاته لجهة نفوذ طهران الإقليمي. وهذا أمرٌ لا تبدو حظوظه وافرة. ولذلك، على اللبنانيين والعراقيين أن يحتاطوا للاحتمال الأسوأ.