عاجلاً أو آجلاً، ستنتهي «أزمة قرداحي»، وسيُفاجأ الجميع بأنّ الرجل دُفِع إلى الأزمة «مرغماً لا بطلاً». فلو قرَّر قرداحي اليوم أن يعتذر للسعوديين أو أن يستقيل، فالأمر ليس متاحاً له. وعلى العكس، لو قرَّر المضيَّ في التصعيد، فيما قوى الداخل والخارج توصلت إلى تسوية، فسيكون مضطراً إلى التراجع. في لبنان اليوم، لا صوتَ يعلو فوق صوتِ المعركة!
هناك 3 مستويات للأزمة الحالية، التي تحمل عنوان «أزمة قرداحي»:
1- النزاع بين إيران والولايات المتحدة حول الملف النووي ونفوذ طهران الإقليمي.
2- النزاع بين إيران والمملكة العربية السعودية حول نفوذها في المنطقة العربية ودورها في الخليج، ولاسيما حروبها في اليمن ولبنان وسوريا والعراق.
3- النزاع بين القوى النافذة في لبنان على السلطة، عشية استحقاقات انتخابية حسّاسة، وربما مصيرية بالنسبة إلى البعض.
طبعاً، سيكون الإنفراج حتمياً إذا حدثت خروقات في جدار المفاوضات المسدود، سواء على خط طهران- الرياض أو طهران- واشنطن. وأما استمرار التعقيد والتعثّر فسيقود إلى تصعيد المواجهة في لبنان إلى حدود غير محسوبة.
وهذا التأثر المباشر للساحة اللبنانية بالمناخ الإقليمي، مردّه إلى أنّ اللاعبين في الداخل، الممسكين بالسلطة وبزمام المبادرة، لا يملكون قرارهم فعلاً. وفي العادة، هم يضطلعون بأدوار الوكلاء للقوى الخارجية. وتوجّهاتُهم وخياراتُهم في الداخل رهنٌ بتعليمات من الأطراف الخارجية أو بتنسيق معها في أفضل الأحوال.
في هذا الخضم، بديهي أن يجد قرداحي نفسه في مواجهة أكبر منه بكثير. ويلاحظ البعض أنّ وزير الإعلام يتعمّد التزام جانب الصمت في الأيام الأخيرة، من هذا المنطلق. فصحيح أنّه شخصياً يرفض التراجع عن مواقف سياسية أعلنها، لكنه أيضاً ليس مضطراً إلى التورّط بهذا الشكل الحادّ ضدّ السعودية والإمارات، وإلى وضع رأسه «في الدقّ».
وأساساً، لم يعلن ميقاتي موقفاً ضدّ السعودية منذ أن دخل الحكومة، وهو يلتزم تماماً ضوابط الموقف الرسمي «المتوازن» كوزير للإعلام، أي كناطق بلسان الحكومة. والأزمة الحالية جرى «نَبْشُها» من أرشيف الفترة التي سبقت دخوله الحكومة. لكن الرجل بات عاجزاً عن الخروج من الموضع الذي حُشِر فيه، بعدما هرع الأقوياء إلى الاصطفاف أمامه والنطق بلسانه وتشجيعه على «الصمود» والتشبّث بالموقف، أياً كان الثمن.
العارفون يقولون: يدرك قرداحي أنّه بات اليوم «قميص عثمان» في المواجهة ذات الطابع الإقليمي في لبنان. لكنه يعرف أيضاً أنّ هناك جانباً محلياً لهذه المواجهة لا يمكن إنكاره. فالبعض يستثمر الأزمة في التصفيات والطموحات السياسية، ويسعى من خلالها إلى إحراق الخصوم سياسياً.
وهذا الأمر عبَّر عنه رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية بوضوح عندما قال: «لن يتراجع قرداحي عن موقفه». فهذا الأمر سيستغله البعض لدى السعوديين للإيحاء بأنّه هو الذي عالج الأمر، وللاستفادة من ذلك لتدعيم الموقع. وموقف فرنجية يكشف مغزى النزاع الدائر داخل منظومة السلطة، على أبواب انتخابات نيابية ورئاسية يعتبرها البعض مصيرية له.
ويقرأ المتابعون تأييد الرئيس ميشال عون وفريقه السياسي لتسوية تتضمَّن استقالة قرداحي على أنّه رسالة إلى السعوديين يُراد منها تجميل صورة رئيس «التيار الوطني الحرّ» جبران باسيل في الرياض، مقابل إحراق صورة فرنجية المقبولة نسبياً هناك، مع اقتراب الانتخابات الرئاسية. وفي العادة، يتمتع السعوديون بدورٍ وازن في الاستحقاقات الرئاسية، إذا لم يكن في التسمية ففي وضع «الفيتو».
منطقياً، يستطيع فرنجية أن يلعب ورقة وزيره قرداحي مع السعوديين، ويقطف الثمار بدلاً من باسيل، فلماذا لا يطلب منه اعتماد المخرج الملائم لتنفيس الاحتقان السعودي، فيتبنّى حلّ الأزمة ويحظى برصيد إضافي في الرياض، خصوصاً أنّ قرداحي عبّر عن انتقاداته لدور السعودية والإمارات في اليمن بصفة شخصية وقبل أن يمثّل فرنجية في الحكومة؟ ولماذا طلب فرنجية من قرداحي أن يتشدَّد أكثر في المسألة؟
هنا تصبح المسألة أكبر من فرنجية ومن باسيل. إنّها في يد «حزب الله»، حليف الطرفين المارونيين. وهو الذي سيقول كلمته وفقاً لما يلائم استراتيجيته الإقليمية وتكتيكه الداخلي في آن معاً. فهو في هذه الأزمة يبعد السعودية أكثر عن لبنان، ويمنح إيران فرصة لملء الفراغ الناشئ. وطبعاً، يتيح له ذلك أن يكون موجوداً في أي تسوية محتملة وأن يتقاضى الثمن.
ولكن، في الوقت عينه، يُتاح اليوم لـ»الحزب» أن «يتكتك» داخلياً بين عون- باسيل من جهة وفرنجية من جهة أخرى، وأن يبلور خياراته وفقاً لمصالحه واستناداً إلى مناخات التسوية وأدوار القوى الإقليمية والدولية التي ستتحكّم بها.
وهكذا، يبدو رأس قرداحي موضع مساومات على مستويات مختلفة ومتشابكة. وفي أي لحظة قد تتمّ صفقات البيع والشراء، ويصبح الرأس تفصيلاً صغيراً في لعبة المصالح الكبرى.