يتصرف رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وفق القرار الذي اتخذه، وهو ماضٍ فيه الى النهاية على ما يبدو. فغداة عودته من مؤتمر غلاسكو، حيث التقى عدداً من زعماء العالم، قرّر ميقاتي أنّه لن يعالج تعطيل الحكومة بالذهاب الى الاستقالة، لا بل على العكس، فهو سيستمر في موقعه حتى ولو لم تنعقد الحكومة من الآن وحتى موعد الانتخابات النيابية. كان واضحاً في خطابه «الهجومي» الذي ألقاه، والذي يختلف جذرياً عن اسلوب المدرسة السياسية التي ينتمي اليها، والتي تشتهر بتدوير الزوايا وزئبقية المواقف.
لا شك في أنّ لقاءاته في غلاسكو أعطته دفعاً كبيراً ودعماً دولياً، وفتحت له آفاقاً جديدة، في وقت تعاني الساحة السنّية من ضمور على مستوى القيادة السياسية، بدأ مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وظهر بوضوح خلال السنوات الاخيرة مع تراجع دور الرئيس سعد الحريري. المهم انّ ميقاتي مصمّم على عدم تقديم استقالة الحكومة، ولو أنّه بات يدرك أنّ الأزمة المستجدة مع دول الخليج اخذت بعداً آخر، وهو ما يعني انّها قد تطول كثيراً. أضف الى ذلك، الربط الذي أجراه الثنائي الشيعي، بين عودة الحكومة وكف يد قاضي التحقيق العدلي في ملف انفجار مرفأ بيروت طارق البيطار. هذا النزاع الذي بدأ بدوره يأخذ ابعاداً اخرى تهدّد وحدة الجسم القضائي وسلامته، ما يفتح الباب امام سؤال بديهي، ما إذا كان ذلك مرتبطاً بنسف كل ركائز دولة الجمهورية الثانية، لدفع الجميع للذهاب الى التفاهم على الجمهورية الثالثة، عندما يحين أوان التسويات الكبرى في المنطقة؟
ذلك انّ حجم الفوضى الذي يمكن ان يخلفه انهيار الجسم القضائي في لبنان سيكون اكبر من الفوضى التي خلّفها الانهيار المالي والاقتصادي. لكن زمن الحلول والتسويات الكبرى لم يحن بعد. فلهذا الامر شروطه المتعلقة بالمنطقة بكاملها. ويبقى لبنان تفصيلاً مهما اشتدت أزماته وبلغت مستويات مرتفعة، وبالتالي، فإنّ قرار إزاحة البيطار اصبح أبعد من الحدود اللبنانية. ألم يقل ميقاتي غداة عودته من الخارج بتمسّكه بالفصل بين السلطات؟ يومها التقى ميقاتي معاون الأمين العام لـ«حزب الله» حسين خليل وطلب منه مسألتين: الاولى مساعدة «حزب الله» لإقناع الوزير جورج قرداحي بتقديم استقالته. لكن خليل رفض وفق تفسيرات وتبريرات عدة، وللأمانة، فإنّ ميقاتي كان يبدو واثقاً من أنّ عدم استقالة قرداحي هو قرار لـ«حزب الله» قبل ان يكون لقرداحي نفسه. ولذلك كان قد جهّز مطلبه الثاني وفق إخراج مدروس، ويقضي بانعقاد جلسة مجلس الوزراء في غياب قرداحي، حيث تتمّ إقالة قرداحي بالتصويت في مقابل ان يصوّت «حزب الله» ضد القرار. لكن خليل رفض ايضاً الاقتراح بشيء من الحدّة.
واستتبع ذلك بالإشارة الى انّ توقف جلسات مجلس الوزراء لا علاقة لها بقرداحي، بل بكف يد القاضي البيطار، وبالتالي فإنّ المعالجة يجب ان تبدأ من هنا، وإلّا فلتبقى الحكومة غير قادرة على الاجتماع.
لكن الجميع بات مدركاً أنّ استمرار البيطار في مهماته بات مسألة اكبر من الواقع اللبناني المحلي. وبالتالي فإنّ الحكومة ستبقى معطّلة خلال المرحلة المقبلة، والتي لا يعرف احد مدة استمرار التعطيل. ورغم ذلك، فإنّه لا يمكن ابداً اعتبار انّ الحكومة دخلت في موت سريري. التوصيف الافضل أنّها في ثبات عميق او ربما ايضاً اصبحت حكومة تقطيع الوقت بدل ان تكون حكومة إنجاز المهمّات الضرورية ولو بالحدّ الأدنى.
وفي المناسبة، وقياساً على الظروف الصعبة التي يئن تحتها لبنان، فإنّ توصيف المرحلة بمرحلة «الوقت الضائع» لا يصح كثيراً. الصحيح أننا بتنا في مرحلة «الوقت القاتل». ويتردّد انّ دولة قطر تبحث في إرسال موفد لها الى لبنان الاسبوع المقبل، للبحث في ملف الأزمة مع دول الخليج. لكن موفد جامعة الدول العربية ترك لبنان خائباً، فغالب الظن انّ مهمة أي موفد آخر لن تحقق النتيجة المرجوة. لذلك ربما عمد ميقاتي الى استكمال العمل ولو من دون اجتماع الحكومة. ثمة مهمّات ثلاث كانت مطلوبة: الاولى وتتعلق بإصلاح قطاع الكهرباء، صحيح انّ ساعات التغذية ستتحسن، لكن إصلاح القطاع لن يكون قريباً. والثانية، التفاوض مع صندوق النقد الددولي، ويبدو انّه قبل نهاية الشهر الجاري ستنتهي عملية توحيد الارقام، على ان يجري توقيع الاتفاق مع صندوق النقد مع نهاية هذه السنة. والمهمة الثالثة هي الإشراف على الانتخابات النيابية المقبلة.
صحيح انّ القرار الدولي حازم بضرورة حصول الاستحقاق النيابي في موعده الدستوري، وانّ عقوبات قاسية ستطاول الفريق الذي سيعمد الى التعطيل، وفي المناسبة فإنّ معظم اطراف الطبقة السياسية الحاكمة يريد تأجيل هذه الانتخابات. لكن المشكلة هي في طريقة اجتياز المرحلة الفاصلة عن الانتخابات وفق الظروف الموجودة. فهذا سيعني انّ الاهتزازات الأمنية ستحصل وستتوالى لتراوح ما بين الاحتكاكات العادية، وصولاً الى ما هو اكبر. صحيح انّ خطورة انفلات الشارع في الطيونة ستجعل الأطراف السياسية اكثر وعياً ومسؤولية، لكن الظرف هو ظرف الحملات الانتخابية، مع ما يعني ذلك من إثارة الغرائز وشدّ العصب، وهذا كله يدفع في اتجاه رفع مستوى المخاطر لا تبريدها. أضف الى ذلك، أنّ الساحة اللبنانية تعيش ازمة مرتبطة في العمق بالأزمة الاقليمية المحتقنة، والاسابيع المقبلة تبدو مشحونة على المستوى الاقليمي. فالولايات المتحدة الاميركية تعمل على رفع مستوى ضغوطها ولو بتدرج بطيء على ايران، لإرغامها على عدم إضاعة الوقت وإعادتها الى طاولة المفاوضات. ولأجل ذلك، تعمل واشنطن على استعراض عضلاتها وربما استخدامها في ظرف محدّد ومحدود. فالإدارة الديموقراطية التي تعاني كثيراً في الداخل الاميركي، في حاجة الى جرعة قوة امام خصومها الجمهوريين. والأهم انّ اسرائيل تستغل الظرف لرفع مستوى رسائلها الحربية. وهذا سينعكس حتماً على الساحة اللبنانية المفتوحة على شتى انواع الإهتزازات.
وتبدو الأجهزة الامنية اللبنانية قلقة من تطورات أمنية دموية، ورغم إدراك الجميع أنّ انفلات الوضع غير وارد، لكن الخشية من اهتزازات أمنية وربما تصفيات، فالاحتقان السياسي الحاصل قد يكون في حاجة الى صدمة ما، وهو ما يرفع باب القلق لدى المسؤولين الأمنيين.
أضف الى ذلك، أنّ الازمة الحاصلة مع الخليج، والتي عنوانها الفعلي نزاع سعودي مع «حزب الله»، قد يؤدي الى رفع منسوب الاحتقان لدى الشارع السنّي في لبنان. ولا حاجة للتذكير، أنّ النزاع الطائفي والمذهبي هو سريع الاشتعال. صحيح انّ لبنان هو تحت الرقابة الدولية، لكن العراق ايضاً كان تحت هذه الرقابة، عندما جرت محاولة اغتيال الكاظمي. لذلك لا بدّ من الحذر.