«لبستُ ثوب العيش لم أُستَشَر وحِرتُ فيه بين شتّى الفِكَر وسوف أنضو الثوب عنّي ولم أدرك لماذا جئتُ أين المَفر» (رباعيات الخيام، أحمد رامي)
«ليس في نيّتي إدخال القارئ في عالم الفلسفة الذي لا قرار له، ولكن، لطالما أثار اهتمامي حديث فلاسفة التنوير عن الحرية والمساواة بين البشر. كلمتان أصبحتا جزءاً من الأدبيات الملازمة للحركات السياسية النضالية في القرون الثلاثة الماضية. ولكن هل صحيح أن البشر أحرار؟ وهل صحيح أنهم متساوون؟ الواقع هو أن مصير كل واحد منّا محكوم بشبكة من المعطيات المتضاربة التي تدير له مسار حياته وخياراته التي يظن أنها حرة. لكنه لم يختر في الأساس تركيبته الوراثية ومن هم أهله وكيف هو شكله ولا قدراته ولا حدود هذه القدرات ولا أين ولد وفي أي بيئة أو أي زمن ولا هو بقادر على إدارة المصادفات والطبيعة والحوادث.
في المحصلة، فلا نحن أحرار في الأساس ولا ولدتنا أمهاتنا أحرارا! أما عن المساواة! فلا نحن ننطلق من خط البداية نفسه ولا السباق يجري على المضمار نفسه. إنها عشوائيات متضاربة ومتناغمة، تنتج لنا ما يصبح قدراً...».
ما سبق هو مقدمة رواية لم تنشر عنوانها «عواصف في ذاكرة» تختصر حياتنا في بلدنا الذي أسقطنا فيه من غير إرادة مسبقة. يقول فيلسوف القرن العشرين العظيم «مارتن هيدغر» اننا ككيان، أي البشر، مرميون في العالم بلا قرار ذاتي، في معطيات لا حصر لها من حقبة زمنية وبقعة جغرافية وقدرات شخصية ومصادفات لا حصر لها. من هنا، فإن الخيار الحر المبني على المقصدية يجب إدخاله في دائرة المساءلة للوصول إلى بعض الفهم، لكن اليقين بعيد عن المنال. الحرية هنا محصورة بمعطيات واقعية في العالم، حتى وإن سعى البشر للوصول إلى احتمالات خارج نطاق العالم. لكن العالم يعيدهم دائما إلى الواقع مهما سرح الخيال. يعتبر هيدغر أن مسألة المقصدية، أي التوجه نحو شيء ما بنحو قصدي، ولا يقول إرادي، هي أيضا موضع المساءلة، لأن الكائن مرتبط بالماضي والحاضر والمستقبل في حالة متفاعلة دوماً، ما يلغي المقصدية الصرفة لتحل مكانها «ما قبل المقصدية!» ولمن يظن أن الكلام هنا مجرد فرضيات فلسفية معزولة، فإن العلوم العصبية الحديثة تؤكد أن الفعل البشري، وحتى الحيواني، مرتبط في الجهاز العصبي بما هو موجود أصلاً، مما يضع حرية القرار في دائرة التساؤل.
هذا بالطبع لا يعف الكائن من تبعات أفعاله، وعليه، رغم كل الغموض المحيط بخياراته وأسبابها، أن يتحمل النتائج حتى وإن لم يكن الفعل تحت نطاق إرادته.
مجدداً أعتذر على المقدمة الثقيلة، فما دخلنا اليوم في هذه الفلسفة الغامضة؟ ما أريد قوله هو أن لبنان لم يكن هو من اختار موقعه ولا زمنه ولا المعطيات المتشعبة التي رمي أو أسقط فيها، لكنه هو في العالم، وكان لِزاماً على سكانه أن يتعاملوا مع الوقائع التي لم يقرروها هم في الأساس. فلم يكن قرارهم أن يكونوا تعدديين، أو متعددين قسراً، ولم يعلموا أن المكان الذي سقطوا فيه ممر حكمي بين الشرق والغرب، ولم يختر أحدهم دينه أو لونه، لكن أتت الأمور كما هي بواقع السقوط في العالم. وبواقع هذا السقوط، كانت الاحتمالات المفتوحة مرتبطة بهذا الواقع. فكان الخيار المتاح هو اللون الرمادي، أي لا أبيض ولا أسود. هذا الخيار كان بفِعل الحفاظ على الذات لبلد ضعيف البنية داخلاً وخارجاً، تتناحر فيه الأعضاء بعضها مع بعض على المكان الضيق أصلاً. وعلى هذا الأساس فقد كان البلد وسكانه عرضة لكل أنواع التجاذبات التي تشده نحو الأبيض أو الأسود، فلم ننجح في أي لون جذبنا إليه في تأمين الأمان، ولم نقنع أحدا باللون الرمادي ليتركنا في سلام. لكننا لا يجب أيضا أن نتصنّع دور الضحية في كل مرة، حتى وإن كان السقوط في هذا العالم ليس من خيارنا، فمعظمنا تاجر بالخيارات المتاحة، أي باع واشترى في اختياراته للألوان التي تلبسها، ولم يكتف بالأسود والأبيض والرمادي، بل ذهب الى كل الألوان، لا بل مزج منها ما لم يخطر على بال.
ماذا يعني ذلك الآن، فلا يكفي أن يفتح وزير الخارجية الشمبانيا احتفالاً بانتصار «المارينز» على مرض بلده، بل عليه أن يأخذ أساسا الموقف المنطقي لسيادة البلد ومصالحه، أي أن يقول إنه يرفض المرض ويسعى لعلاجه قبل مساعدة «المارينز». كما أن من الواجب لديبلوماسي ما، أن يفهم تبعات أقواله، وبالتالي أن تكون ذاكرته وفطنته حاضرتين عند الدردشات التي لم يعد من الممكن ان تكون سرية. يعني أن قمة الجحود القول إن لبنان لم يحصل على مساعدات من دول الخليج، في وقت أن الودائع تعددت والمساهمات في المشاريع الإنشائية لا يمكن تعدادها، وحتى لو وصلت أموال بالمباشر، فقد صرفت تلك الأموال في لبنان. وبكونه وزير خارجية، فكان عليه أيضا أن يعي ما يعنيه عمل بضعة مئات آلاف من اللبنانيين في دول الخليج، يرسلون بضعة مليارات من الأموال بالعملة الصعبة، لتدخل في دورة الاقتصاد المنهك من قبل المرض الذي تحدث عنه الوزير.
لا أحد يطلب منا وقفة عز انتحارية، لكن التلون بشتى ضروب المواقف على مدى وجودنا، إن كان نفع لبعض الوقت، لكنه كان الباب أيضا لاستخدام هذا البلد وأبنائه لشتى الأهواء الانتحارية. وهنا، لا أحيد أي طائفة أو مذهب أو حتى ضرب من ضروب السياسة عن المشاركة في الجريمة. اليوم لم يعد الاكتفاء بحيوان «الموركس» لنصبغ أنفسنا بالصباغ الأرجواني نافعا للتميز، فقد ضاع هذا اللون في خليط الألوان الذي استحضرناه من كل مكان. لذلك، فعلى من يريد استعادة لونه اليوم أن ينظم الصفوف وأن يعلن بوضوح موقفه مما يحدث، ليس من أجل نصرة أهل الخليج، ولا استعطافاً لدولة مهما كانت حاجتنا اليها، بل لكي نأخذ الموقف المفيد لبلدنا ولاستقراره ولاحتمال أن يعود أبناؤنا الذين تبتلعهم الألوان المتعددة في دوامة الموت تحت شعار الاستشهاد، أو اليأس من كل شيء، أو، في أحسن الحالات، سلم طائرة إلى أي مكان خارج لبنان.
قبل فوات الأوان، لنجمع القوى التي صنعت الرابع عشر من آذار في يوم ما لإعادة لون الأمل للبلد بكلام واضح لا رمادية فيه. فليكن من في السلطة لوحده ليتحمل المسؤولية الكاملة في الاقتصاد والديبلوماسية والأمن والتربية... ومن في المعارضة معارض لا تغريه المشاركة في فتات السلطة وأوهام الريعية، تحت شعار مقيت عنوانه التوازن الوطني وحكومات الوحدة الجامعة لكل التلاوين التي تلغي اللون.
في اختصار، على من قال يوماً انه سيادي، أن يرفض الحكم حتى وإن كانت له الأكثرية النيابية، إلا إذا كان القرار بالفعل هو لهذه الأكثرية.