لم يكن أحد من رجال القانون أو المهتمين به يفكر أو يتصور أن يتحول قصر العدل في بيروت إلى ساحة صراع بين القضاة من أرفع الدرجات والمواقع، ولم يخطر ببال أساتذة القانون في كليات الحقوق في لبنان أو الخارج أن تتحول مسألة تنازع الصلاحية القانونية أو تقاذفها إلى مسألة رأي عام تتدحرج إلى حد يقدم فيه بعض من المواطنين على اقتحام مكتب قاضي رئيس غرفة في محكمة الاستئناف ويختموا بابه بالشمع الأحمر، ولم يتصور أحد أن ينشب النزاع بين السلطات الدستورية الثلاث في البلاد تنازعاً أو تقاذفاً للمسؤولية أو الصلاحية في تقليب ملف قضائي ولم يكن بإمكانه توقع أو تصور ذلك في بلد من العالم، لكنه في لبنان وقع وحصل انقسام بين القضاة وفي القضاء ليس على أساس قانوني متصل بتفسير القانون وتطبيقه بل وللأسف على أساس طائفي بعضه مخفي مستتر وبعضه واضح فاضح.
إن ما نكب به القضاء في لبنان بسبب الشبهات التي أحاطت بتصرف بعض القضاة ارتد على السلطة القضائية برمتها وتسبب في ندوب وجروح أن لم يكن أكثر، أذهبت جزءاً من الهيبة المطلوبة للسلطة الثالثة في الجمهورية وهي السلطة المناط بها الفصل في المنازعات وأحقاق الحق لإرساء الأمن والسلم الأهلي، فاذا بها وعلى يد أهلها وبمشاركة من بعض السياسيين تتحول إلى مشكلة قائمة بذاتها بحاجة إلى من يمد لها يد المساعدة حتى تستقيم الأمور ويعود إليها التوازان والفعالية.
و لنكن أكثر صراحة، فإننا نقول إن السبب الرئيسي الذي أوصل القضاء في لبنان إلى ما وصل إليه من سوء عائد في الأصل إلى سلوك بعض القضاة الذين أنيطت بهم صلاحية ما بالتحقيق في انفجار مرفأ بيروت أو صلاحية تتصل بهذا التحقيق من قريب أو بعيد، فمارسوا صلاحياتهم بشيء من الاستنسابية والتمييز والاستهداف الظاهر غير المبرر أو غير المفهوم، ما أثار الريبة والشك في أدائهم وهنا لا يمكن أن نقول لمن ارتاب تخلى عن ريبتك واهدأ وامنح القاضي الثقة من غير أن نقدم له ما يقنعه بأن ريبته خطأ، بل نقول كما قال الإمام علي “من وضع نفسه موضع الشبهة/ التهمة لا يلومن من أساء الظن به”، وقد كان في سلوك بعض القضاة الذين عالجوا شاناً من شؤون ملف لتحقيق هذا ما وضعهم في محل شبهة وحمل المتضررين على إساءة الظن.
ومع سوء الظن هذا وبعده كانت المشكلة الثانية الناجمة عن تصرف من أولاهم القانون صلاحية تصويب المسار القضائي في حال الشبهة بخلل اعتراه، حيث أن المخولين في السلطة الفضائية معالجة الخلل وتصحيح المسار لإبعاد الشبهات استنكفوا عن القيام بواجباتهم التي تفرضها صلاحياتهم، ولم يمارسوا ما أناط القانون بهم حفظاً للقضاء وهيبته وأسمي هنا كل من وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى والتفتيش القضائي وأتجاوز مجلس الوزراء الذي لا يملك في الواقع القانوني سلطة فعلية في هذا المجال إلا عن طريق وزير العدل. وبدل أن يمارس من ذكرنا أعلاه سلطاتهم من أجل تصحيح المسار ومعالجة الشبهات قاموا بالعكس بتصرفات تنمي الشبهة وترفع مستوى الريبة إلى الحد الذي بدأت الدعاوى تنهال على القضاء لا بل تهطل عليه طلبات الرد ورد الرد ومخاصمة الدولة ونقل الدعوى بشكل لم يحدث قضاء في بلد في العالم.
يجب أن نعترف جميعاً بأن وضع القضاء في لبنان الآن وصل إلى حد اهتزت الثقة به وتالياً بما سيصدر عنه من قبل المولجين بالتحقيق بملف المرفأ، ولا يمكن أن تسلم الأمور تصحح من أجل أن يعود الشأن إلى بهائه إلا بقرار استثنائي ينقذ القضاء، ونقول إن همنا انقاد القضاء قبل أن نتمسك بإنقاذ شخص في القضاء مهما علا شانه، قرار يتخذ في ظل حالة طوارئ رسمية، قرار يشارك فيه القضاء نفسه عن طريق الهيئات المختصة ومجلس الوزراء ومجلس النواب إن اقتضى الأمر تشريعاً ما ويكون المخرج عبر ما يلي:
1 – سحب ملف التحقيق من يد جميع القضاة الذين تداولوه حتى الآن بصرف النظر عن الدرجة التي وصل إليها التحقيق على يدهم.
2 – إيداع الملف مجدداً قضاة جدداً لم يسبق لهم أن اتخذوا موقفاً أو ساهموا بشأن يتعلق بهذا الملف
3 – إعادة النظر بالتشريع الذي يرعى تأليف وعمل المجلس العدلي بأركانه الثلاثة النيابة العامة والتحقيق وقضاء الحكم وتحديد المرجع الصالح للبت بأي شكوى أو تظلم من أحد من هيئات أو أشخاص المجلس العدلي
4 – وقف السجالات والتراشقات السياسية والإعلامية المتصلة بهذا الملف
5 – اتخاذ التدابير المناسبة للحؤول دون وضع القضاء تحت ضغط الرأي العام إعلاماً أو تظاهراً أو اعتصاماً.