رغم غياب المؤشرات الجدّية حول عودة قريبة لاجتماعات الحكومة، إلّا أنّ الرئيس نجيب ميقاتي لا يتأخّر عن الإيحاء بوجود أجواء ايجابية ستسمح بعقد جلسة للحكومة خلال الاسابيع المقبلة. قد يكون لتفاؤل ميقاتي اسبابه، او قد يكون على قاعدة انّ المسؤول ملزم باختراع الأمل.
قريباً جداً من المفترض ان يُصدر رئيس مجلس القضاء الاعلى القاضي سهيل عبود حكمه في دعوى مخاصمة الدولة التي تقدّم بها كل من الرئيس حسان دياب والنائب نهاد المشنوق. قد يكون رئيس الحكومة يعوّل على قبول القاضي عبود لهذه الدعوى، وبالتالي فتح الطريق امام إبعاد الرؤساء والوزراء والنواب عن تحقيقات القاضي طارق البيطار، وهو ما يشكّل استجابة لمطلب الرئيس نبيه بري. وبالتالي، فإنّ الرئيس ميقاتي يأمل بأن يتمكن الرئيس بري عندها من تعبيد طريق العودة الى اجتماعات الحكومة، آخذاً على عاتقه مسألة إقناع «حزب الله». هي صورة متفائلة لكنها لا تبدو واقعية.
فرئيس مجلس القضاء الأعلى بدا في الفترة الاخيرة بمثابة الغطاء الكامل لعمل القاضي البيطار، وهو ما يدفع للاستنتاج المسبق بأنّه سيرفض دعوى مخاصمة الدولة.
أضف الى ذلك، انّ «حزب الله» متمسك بقوة بموقفه الرافض للعودة الى جلسات مجلس الوزراء، ويربطه «بقبع» القاضي طارق البيطار. ذلك أنّ اساس اعتراضه يستند الى ارتيابه من القرار الظني الذي يعمل القاضي البيطار على إصداره.
في المحصلة، لا تبدو الطرق مفتوحة امام عودة اجتماعات الحكومة، ولو أنّ توزيع بعض الأجواء التفاؤلية لا يضرّ. وبات معروفاً انّ الرئيس ميقاتي اتخذ قراره بعدم الاستقالة اياً تكن الظروف، حتى ولو بقيت الحكومة معطّلة الى حين موعد الانتخابات النيابية، والتي ستحصل منتصف ايار المقبل. هو قرار الرئيس ميقاتي الذي ازداد تمسّكه به بعد مشاركته في مؤتمر غلاسكو، حيث كانت له لقاءات حافلة مع زعماء العالم، أعادت شيئاً من صورة علاقات الرئيس رفيق الحريري على المستوى الدولي، لدرجة انّ هنالك من يعتقد بأنّ الرئيس ميقاتي يشرع في دراسة احتمالات مرحلة ما بعد حصول الانتخابات النيابية، وهي المرحلة الأخطر والأصعب التي تنتظر اللبنانيين والتي ستلامس الصورة التي سترسو عليها الجمهورية.
لذلك، هو نجح بداية في إقناع الرئيس فؤاد السنيورة بوضع «معزوفة» استقالته جانباً. «ولاية رئيس الجمهورية المسيحية» لست سنوات ثابتة مهما حصل، ورئيس المجلس النيابي الشيعي ثابت، منذ ثلاثين عاماً، فلماذا علينا هزّ رئيس الحكومة السنّي كلما حصلت مشكلة»؟
هو منطق يُقنع الرئيس السنيورة، ما جعل ميقاتي يستبعد دعم نادي رؤساء الحكومة مجتمعين.
وبخلاف بعض التكهنات، فإنّ علاقة ميقاتي بالرئيس سعد الحريري تبدو جيدة، وهي ترتكز على تفاهمات عدة، على ما يبدو تصل في بعضها الى ملف الانتخابات النيابية المقبلة. لكن قبل الاستحقاق النيابي يريد رئيس الحكومة تطبيق بعض ملفات خطته الإصلاحية، مستفيداً من الدعم الدولي الذي يحوز عليه، والذي تجلّى اخيراً بإشادة وزير الخارجية الاميركية بخطة ميقاتي.
يحسب رئيس الحكومة لاحتمال استمرار التعطيل الحكومي، لذلك هو يعمل من خلال الاجتماعات الوزارية لتطبيق خطته.
على مستوى الكهرباء، حيث سيجري تمويلها من اموال اللبنانيين، ولكن تحت إشراف وإدارة اجنبية، مع التوجّه لرفع سعر التعرفة حوالى 20 مرة، ولو وفق الشطور. لكن «حزب الله» لا يبدو متفائلاً كما ميقاتي في هذا الإطار.
وهنالك ملف إعادة اعمار مرفأ بيروت، حيث يعارض ميقاتي تلزيمه لدولة خارجية. ويُنقل عنه قوله «بأننا لا نحتمل سوليدير ثانية». هنالك أيضاً وضع الموازنة، وهو ما يستوجب انعقاد الحكومة. وعلى هذا الأساس يراهن ميقاتي على ضغط إعلامي وسياسي لفك أسر الحكومة، خصوصاً انّ الموازنة شرط اساسي لصندوق النقد الدولي. وهنالك ملف اموال المودعين في المصارف، وخطة ميقاتي تقول بتحرير اول 50 الف دولار واعطائها لأصحابها مناصفة بالدولار والعملة اللبنانية، على ان تستدين الدولة المبالغ المتبقية لـ20 سنة مع دفع فائدة سنوية بـ 2% او 3%. وهنالك ايضاً ملف رفع الدولار الجمركي، وايضاً منح الموظفين شهراً اضافياً.
والواضح انّ ميقاتي يحرص على الحفاظ على تناغمه مع رئيس الجمهورية، وهو ما سمح له بتمرير تعيينات الجامعة اللبنانية، ولو انّ النائب جبران باسيل والذي علم بما حصل متأخّراً، ابدى معارضته الضمنية لها.
وقد يكون ميقاتي يحسب أيضاً لأن تساهم ضغوط رئيس الجمهورية في استعادة جلسات الحكومة.
أما بالنسبة للأزمة مع السعودية، فتبدو خارجة عن قدرة معالجة ميقاتي. في الأساس لم ترسل الرياض إشارات ايجابية تجاه حكومة ميقاتي، وانفجرت الأزمة عند تقاطعي معارك مأرب في اليمن، والتراجع في العلاقات الاميركية - السعودية، والتي لم تسمح بتأمين لقاء بين الرئيس الاميركي وولي العهد السعودي في غلاسكو. وهنا لا يجب ان نغفل التمرّد السعودي الحاصل بوجه إدارة بايدن حول ملف اسعار النفط.
لكن ميقاتي الذي يريد ان يدشّن زياراته الى الدول العربية، بدأ يبحث عن محطته الاولى بعيداً من عواصم الخليج بعد كل ما حصل، وهو ما يدفع بأن تكون القاهرة الطامحة بقوة لدور اكبر في لبنان، أولى محطاته العربية.
كل ما تقدّم يشي بأنّ الاسابيع المقبلة لن تكون سهلة، في وقت لا تبدو المخارج مؤمّنة. أضف الى ذلك انّ القوى السياسية بدأت تتحضّر للانتخابات النيابية وتنتهج خطاب إثارة العصبيات، وفي الوقت نفسه تعمل وتسعى الى تطيير الانتخابات في الخفاء، لكن الانتخابات حاصلة في منتصف ايار، اذا لم يطرأ حدث مفاجئ وكبير وخارج عن التوقعات.
في هذه الانتخابات لن يترشح ميقاتي ولا حتى الوجوه المحسوبة مباشرة عليه. سيدفع لوائح «صديقة» في طرابلس وعكار. وفي المقابل وخلافاً لما يجري تناقله، فإنّ الرئيس الحريري سيخوض الانتخابات على رأس لوائح «تيار المستقبل».
وهذا ما يدفع للتساؤل، ما إذا هنالك خيط خفي يربط بين إحجام ميقاتي ومشاركة الحريري. فبعد الانتخابات النيابية بات ثابتاً أن لا امكانية فعلية وجدّية لإنتاج حكومة جديدة قبل 5 اشهر من انتهاء ولاية الرئيس عون. وهو ما يعني أنّه مع نهاية شهر تشرين الاول 2022، فإنّ الدولة اللبنانية ستكون على موعد مع فراغ على مستوى الرئاسة الاولى، حيث لا تبدو الامور ميسّرة لوصول رئيس جديد، وكذلك على مستوى الحكومة التي ستكون بحكم تصريف الاعمال.
باختصار، ستكون شرعية الدولة اللبنانية مرتكزة قولاً وفعلاً على مجلس النواب وحده، وستكون هنالك مشكلات دستورية كثيرة. وبالتأكيد فإنّ هذا الوضع لن يكون ابداً مصادفة.
الإستنتاج، انّ هنالك من سيدفع باتجاه اعادة تعديل النظام السياسي في البلد، بالتوازي مع النظام السياسي الجديد في سوريا، وإعادة رسم خرائط النفوذ في المنطقة.
حتى الآن يُقال انّ «حزب الله» يريد الذهاب الى الجمهورية الثالثة، رغم نفيه العلني والرسمي لذلك.
وفي المقابل، ترفض واشنطن ومعها العديد من العواصم الاخرى، منح إيران موقعاً شرعياً نافذاً داخل الدولة اللبنانية.
هي المعادلة التي اختصرتها شخصية سياسية لبنانية بارزة وباللغة والمفردات الشعبية اللبنانية: موتور الدولة بعد اكثر من سنة هل سيجري استبداله بالكامل او سيُعمل على خرطه فقط؟
هذا هو لبّ المشكلة والمعادلة.