عندما أمر الحاكم السعودي طيرانه بشنّ الغارات علي اليمن في عام 2015 مفتتحاً ما أسماه «عاصفة الحزم» التي شكل لتنفيذها تحالفاً عربياً بقيادته، ظنّ أن ما قيل له أو ما منّى النفس به من سيطرة على اليمن أمر يسير ومحسوم التحقق، والمسألة ما هي إلا أسابيع قليلة وتتحوّل اليمن بنفطها وغازها إلى ثروة بيد السعودية وبعدها تمتلك السعودية السيطرة والتحكم بباب المندب وتشرف على الملاحة في البحر الأحمر من بابه الجنوبي وتتحوّل بذلك إلى قوة إقليمية عظمى لا تنازع منفتحة على موقع دولي متقدّم مستفيدة من تسيّدها في الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي وطبعاً تأثيرها في منظمة أوبك.
كان الطموح السعودي معززاً بدفع أميركي بريطاني أقوى من أن يقاوم، بخاصة أنه تشكل في لحظة إقليمية خاصة وحرجة كانت فيها سلطة محور المقاومة على الأرض تنحسر بشكل كبير في كلّ من سورية والعراق وتهدّد لبنان بالحصار وإيران بالعزل، لذلك كان الطموح السعودي والأهداف الغربية من الحرب على اليمن «أهداف مغرية ومعقولة وواقعية» وفقاً لقواعد تقدير الموقف الاستراتيجي والعسكري والعملاني، لا بل يُقال أيضاً من قبل البعض أن الإحجام عن اغتنام تلك اللحظة التاريخية يُعدّ خطيئة وتفويت فرصة عظيمة لا تعوّض.
بيد أن السعودية التي أظهرت نفسها قائدة للحرب من غير شريك فعلي في الغنائم المتوخاة على كلّ صعيد، لم تكن في حقيقة الأمر كذلك بل كان لها شريك جدي لا يقلّ طموحه عن الطموح السعودي وهو الإمارات العربية المتحدة التي دخلت الحرب إلى جانب السعودية وعينها على الثروة والأرض والموقع الاستراتيجي اليمني، وصحيح أنها لم تكن تصبو لامتلاك كلّ شيء في اليمن كما كانت حال السعودية، لكنها كانت تتوخى تقاسم اليمن مع السعودية وفقاً لصيغ ساعدها آخرون على اعتمادها.
أما أميركا و»إسرائيل» وغيرهم من قوى توجيه العدوان ودعمه فلم يكن يعنيهم حصة هذا أو ذاك من اليمن طالما أن مآل الأمور إليهم ستكون على أيّ حال بصرف النظر عما إذا كانت بالعنوان السعودي أو بالعنوان الإماراتي، فكلا الطرفين يعملان عند رب عمل واحد هو الغربي المتشكل بقيادة أميركية.
في ظلّ هذه الأهداف والطموحات شنت الحرب ـ العدوان على اليمن، فكانت المفاجأة الكبرى لكلّ أهل الحرب قيادة وتخطيطاً وتنفيذاً وتجهيزاً وتسليحاً: الصمود والمناعة اليمنية، فانهارت كلّ الطموحات والتوقعات عند أقدام اليمنيين الوطنيين الذين سارعوا إلى تنظيم قدراتهم الدفاعية في إطار الجيش الوطني اليمني واللجان الشعبية اليمنية، القوى التي عملت في الميدان بشكل حقق المعجزات العسكرية ودفع الأمور بعد سنتين أو ثلاث إلى مشهد يقوم على أربع قواعد: أوّلها أن العدوان لن يحقق أهدافه عسكرياً مهما طال، ثانيها أن الضغط الدولي لن يعطي العدوان في السياسة ما عجز عن أخذه في الميدان، ثالثها أن القتل والتجويع والحصار لن يكسر إرادة اليمن، ورابعها أن الوقت ليس في مصلحة العدوان بل العكس هو الصحيح.
هنا استخلصت الإمارات النتائج وقرّرت اعتماد استراتيجية خاصة بها في اليمن تخرجها من ربقة الهزيمة وتحفظ لها القدر الممكن من المكتسبات التي استطاعت انتزاعها أو وضع اليد عليها وتعفيها من تحمّل المزيد من الخسائر وتقديم تضحيات لا طائل منها، موقف إماراتي كان مغايراً للموقف السعودي الذي بقي على عناده وتعنّته وإمعانه في السير في الحرب ـ العدوان على رغم الأفق المسدود الذي ظهر جلياً أمام كلّ ذي بصر وبصيرة.
هذا ولم يحصل التباين في الموقف الإماراتي والموقف السعودي في اليمن فقط بل وحيال سورية أيضاً. حيث أن الإمارات استخلصت أيضاً أن سورية لن تسقط لا بل إنها انتصرت على العدوان الذي كسر وسقط ما جعلها تعيد النظر في موقفها منها، وتحضر لإعادة العلاقات معها حتى تخرج أيضاً من المركب الخاسر وتحضر نفسها لموقع تتوخاه فاعلاً على صعيد المساهمة في إعادة إعمار سورية.
وهكذا نجد أنه في حين اتجهت الإمارات للبحث عما يحقق لها المكاسب ويحجب عنها الخسائر، تسلك السعودية مساراً آخر يعمّق من مآزقها ويضخم من خسائرها إلى الحدّ الذي باتت تجد فيه نفسها منحسرة النفوذ متراجعة عن أكثر من ساحة ومهزومة في أكثر من ميدان، وبدل أن تقف السعودية على أسباب الإخفاق وتعالجها أو تعتمد استراتيجية الحد من الخسائر فإنها عملت ولا تزال تعمل خلاف المنطق وتحمّل المسؤولية لغير فاعل أو مسؤول وتطمح بغير ممكن، وضمن هذا تتعامل مع لبنان وتصب جام غضبها عليه وتريد أن تعوض عبره كلّ خسائرها في الإقليم.
فالسعودية تزعم أنها أنفقت في لبنان خلال السنوات الأخيرة ما يناهز الـ 72 مليار دولار، وأنها احتضنت ودعمت معظم الأطراف اللبنانية، لكنها تجد نفسها اليوم في غير موقع التحكم وبعيداً من مقبض القيادة والسيطرة على لبنان، وتزعم أن إيران هي التي تملك ذاك الموقع وتحتلّ تلك المنصة (طبعاً تطلق التهمة أو تطرح التصوّر من غير بيّنة وغير دليل)، كما أنها تزعم أن سبب هذا الأمر هو وجود حزب الله والدور الذي يلعبه، الحزب الذي لم يكتف (بحسب ظنها) بحرمانها من امتلاك قرار لبنان بل أيضاً ذهب إلى اليمن وشارك مع الحوثيين (أو بحسب زعم السعودية قاد المعارك في وجه قواتها وسلّح وجهّز وصنع السلاح ووضعه بيد المقاتلين اليمنيين الذين درّبهم لقتال السعودية وقصف عمقها) شارك في حرب الدفاع عن اليمن، فمنع السعودية من تحقيق أهداف هذه الحرب.
على ضوء تصوّرها ومزاعمها فإنّ السعودية تحمّل حزب الله مسؤولية هزيمتها في اليمن ومسؤولية خسارتها للنفوذ في لبنان! بالتالي مسؤولية انحسار حجمها وفضائها الاستراتيجي إقليمياً ودولياً، ولأجل ذلك تشنّ عليه وعلى لبنان الذي هو فيه حرباً شعواء وتهدّد بتصعيد هذه الحرب حتى لا تبقي ولا تذر، ولا تقبل من أجل وقف حربها إلا تحقيق شرطين: أوّلها انسحاب حزب الله من اليمن ووقف الأعمال الهجومية ضدّ قواتها ومرتزقتها لتعويض خسارتها فيه بشكل تبدو منتصرة أو أقله غير مهزومة، وثانيهما وضع حد لهيمنة حزب الله على لبنان وخروجه من السلطة ومن مواقع التأثير ليتاح لها العودة إلى ما كانت عليه في عام 2005 متحكمة بشكل شبه حصري بالقرار اللبناني.
من ينظر في الواقع ويسقط الطلبات السعودية عليه يجد سريعاً أنها طلبات مستحيلة التلبية ليس لأنّ لبنان وحزب الله لا يريدان تلبيتها، بل لأنّ ما تزعمه السعودية وتطالب بمعالجته غير واقعي وغير صحيح وغير قائم، فحزب الله لا يملك قرار اليمن ولا يقود الحرب في اليمن بوجه السعودية وليس في أي موقع من التأثير الفعلي المقرّر في اليمن، وقد أكد الأمين العام للحزب ذلك بكلّ صدق ووضوح، أما في لبنان فإنّ معضلة السعودية ليست مع حزب الله الذي لا يملك قرار لبنان ولا يهيمن عليه بل مع من اتخذتهم حلفاء وشركاء وأدوات للسيطرة على لبنان فأخدوا مالها وخيّبوا آمالها، وهي على أيّ حال لا يمكنها أن تحكم لبنان كما تشاء.
لذلك نرى بأنّ السعودية إذا شاءت استعادة موقعها في الإقليم. عليها مراجعة سياستها في اليمن وفي لبنان وفي سورية أيضاً، والتصرف بموضوعية وعقلانية وأن تعتمد استراتيجية تحديد الخسائر بدل سياسة المزيد من الغرق والخسارة وعليه نرى أن على السعودية اتخاذ 3 قرارات استراتيجية: أوّلها قرار وقف الحرب على اليمن والخروج منه، والثاني الاعتراف بحكومة لبنان والتعامل معها وفقاً للأصول وملاقاة اليد الممدودة منها والاستجابة لرئيسها الذي قال «إن السعودية قبلتي السياسية والدينية»، والثالث العودة إلى سورية أسوة بالإمارات وإقامة العلاقات الطبيعية معها ما يمكنها من إعادة التوازن إلى موقعها الاستراتيجي العام إقليمياً.