أخيرًا، ترجم "التيار الوطني الحر" الأقوال إلى أفعال، فقدّم الطعن المُنتظَر بالتعديلات التي أدخلها مجلس النواب في جلسته الأخيرة، التي وصفها بـ"المهزلة التشريعية"، على قانون الانتخاب، بعدما انتظر ليقدم على هذه الخطوة اليوم الأخير من المهلة الدستورية الممنوحة له، ما أثار العديد من علامات الاستفهام ورسم الكثير من التكهّنات حول الغايات من ذلك.
حرص "التيار" على "تطمين" القاصي والداني، على الهامش، بأنّ الطعن، وهو حق مشروع له لا لبس فيه قانونًا ودستورًا، لن يؤثر على مسار العملية الانتخابية، طالما أنّه "محصور" بالتعديلات المُستحدَثة، ما يعني أنّ القانون "لن يُعلَّق" بالمُطلَق، وسيكون بمستطاع الوزارات المعنيّة استكمال إجراءاتها اللوجستية التحضيرية للانتخابات، كما لو أنّ شيئًا لم يكن.
استند "التيار" أيضًا إلى خبراء القانون والدستور ليؤكد أنّ طعنه لا يمكن أن يؤدّي إلى "تطيير" العملية الانتخابية، فالمهلة الممنوحة للمجلس الدستوري لقبول الطعن أو رفضه لا تتجاوز الشهر، ما يعني أنّ مهلة الأشهر الثلاثة المفترضة لدعوة الهيئات الناخبة ستبقى "مكفولة"، حتى في حال تقرّر إجراء الانتخابات في أواخر شهر آذار، لا مطلع أيار كما يريد "العونيّون".
لكن، هل تكفي فعلاً كلّ هذه "التطمينات" لضمان أنّ الطعن لن يؤثّر على مسار العملية الانتخابية؟ لماذا انتظر "التيار" حتى اليوم الأخير لتقديم طعنه؟ وما صحّة ما يُحكى عن "سيناريوهات تهويلية" بدأ الحديث عنها، لا تنذر سوى بـ"تطيير" العملية الانتخابية عن بكرة أبيها، أو في أحسن الأحوال، جعلها عرضة للطعن بالمُطلَق، إن جرت أصلاً؟.
يتمسّك "العونيّون" برأيهم القائل بأنّ الطعن، بحدّ ذاته، يبقى "عديم الأثر" على العملية الانتخابية، وهو ما يؤكّده كلّ خبراء القانون والدستور، فحتى لو أخذ المجلس الدستوري كامل المهلة المعطاة له للبتّ بالقانون، فإنّ قراره يفترض أن يُتَّخَذ قبل 27 كانون الأول، ما يترك الفرصة مؤاتية لإجراء الانتخابات حتى في التوقيت الذي أوصى به البرلمان، والذي يرفضه "التيار"، أي في 27 آذار، باعتبار أنّ مهلة الأشهر الثلاثة الفاصلة بين مرسوم دعوة الهيئات الناخبة وموعد الانتخابات ستبقى مُحترَمة في هذه الحالة.
من هنا، يضع "العونيّون" كلّ ما يروّجه البعض عن أن طعن "التيار" يهدف إلى إلغاء الانتخابات و"تطيير" الاستحقاق عن بكرة أبيه في خانة "التهويل"، مشيرين إلى أنّ مشكلة هؤلاء أنّهم وجدوا أنفسهم في "أزمة" لأنّهم يدركون أنّ الطعن "مبكّل"، إن جاز التعبير، بمعنى أنّ رفضه لا يستقيم قانونًا ودستورًا، خصوصًا بعدما "ورّط" رئيس مجلس النواب نبيه بري نفسه بـ"اجتهاد دستوري" لاحتساب الأكثرية، يناقض ما ذهب إليه بنفسه في انتخابات الرئاسة، حين كرّس مبدأ أن عدد أعضاء البرلمان يبقى 128، بمعزَلٍ عن نقصانه لسبب أو لآخر.
أما سبب تأخير تقديم الطعن حتى اليوم الأخير، رغم أنّ القرار بشأنه مُتّخَذ منذ اليوم الأول، بل منذ "فضّ" جلسة البرلمان الشهيرة وتطيير نصابها، فيعزوه "العونيّون" إلى الرغبة بدرسه من كلّ جوانبه، وضمان مقوّمات قبوله، وهو ما استغرق وقتًا، فيما يردّه آخرون إلى رغبة "التيار" باستثمار عامل الوقت لصالحه، بحيث "تضيق" المهل أكثر، ويصبح تأجيل الانتخابات من آذار حتى أيار بمثابة "أمر واقع"، نظرًا للصعوبات التي تعتري "تبكيرها".
هكذا، تبدو الأمور على "الصراط المستقيم"، في الظاهر، فالطعن محصور بالتعديلات، وبالتالي فإنّ قبولها أو رفضها لن يغيّر شيئًا على أرض الواقع، وبالتالي فإن الانتخابات لن تتأثّر، وستحصل إما في آذار أو في أيار، بحسب ما سيخلص إليه المجلس الدستوري في مطالعته النهائية، التي ينبغي أن يلتزم بها جميع الأطراف، إذا ما توافرت "الإرادة السياسية" بإجراء الاستحقاق، بطبيعة الحال.
لعلّ "كلمة السرّ" تكمن هنا، فهذه "الإرادة" تبقى "بيت القصيد"، فإذا توافرت تسهَل الأمور، وإذا لم تتوافر تتعقّد أكثر، وهو ما يبدو أكثر "ترجيحًا"، ويتعزّز بسلسلة السيناريوهات "التهويلية" التي بدأ التداول بها، لتحويل الطعن بقانون الانتخاب إلى دافع لـ"تصعيد سياسي" لا يبشّر بالخير، ويؤدي عمليًا إلى "الإطاحة" بالانتخابات، بعد إيجاد كلّ فريق "المَخرَج المناسب" له، عبر تحميل الطرف الآخر المسؤولية الكاملة.
من هذه "السيناريوهات" مثلاً ما يُحكى عن أنّ المجلس الدستوري، الموزّع طائفيًا وسياسيًا، لن يُسمَح له بالانعقاد أصلاً لدرس "الطعن" المقدَّم من "التيار"، وهو "سيناريو" سبق أن اختُبِر في العديد من القضايا، ولا يُستبعَد أن يلجأ إليه خصوم "التيار"، علمًا أنّ "تعذّر" انعقاد المجلس سيؤدي تلقائيًا إلى سقوط "الطعن" في دهاليز السياسة والطائفية، وبالتالي رفضه بانقضاء المهلة الممنوحة للمجلس لبتّ أمره.
لكنّ مثل هذا السيناريو سيكون له "تبعات"، وقد يكون الردّ عليه إجرائيًا، وفق سيناريو آخر، بحيث يستخدم رئيس الجمهورية صلاحياته، فيمتنع عن التوقيع على أيّ مرسوم يدعو الهيئات الناخبة لإجراء الانتخابات في آذار، من باب ردّ الاعتبار، ويصرّ على إجرائها في أيار، بما ينسجم مع الموقف الذي أعلنه بعيد إقرار التعديلات في مجلس النواب.
في هذه الحالة، يقول البعض، إنّ البلاد ستكون على موعد مع "استقطاب حاد" من شأنه أن يطيح بالعملية الانتخابية عن بكرة أبيها، فالإصرار على إجرائها في آذار، من دون توقيع رئيس الجمهورية، سيعرّضها للطعن بالمُطلَق، والتسليم بتأجيلها إلى أيار، سيُعتبَر بمثابة "هزيمة" لفريق سياسيّ، حوّل موعد الانتخابات إلى "خلاف شخصي"، وما أبعد من ذلك.
ينظر كثيرون إلى الانتخابات على أنّها "مفتاح الحلّ" للأزمات، لكنّ القوى السياسية تريدها ربما عنوان "تأزيم" جديد، وفق ما يظهر من الانقسام الذي بدأ مبكرًا، ما يُخشى معه أن يترجم "سيناريو" العراق في لبنان، ففي بغداد تحوّلت الانتخابات إلى "أزمة" وضعت مصير البلاد على كفّ عفريت، مصير يبدو بعض اللبنانيين راغبين به، لعلّه ينقذهم من "ورطة" الاستحقاق!.