ويبقى الإستقلال رغم كل التهكّمات التي يطلقها المنتقدون والشتّامون والهزليّون وكافّة الذين يصدرون مواقف استهزائيّة في هذه الذكرى، ويعتبرون أنها باتت خارج الصلاحية، أو تندّموا على الساعة التي فيها وقفنا في وجه الإنتداب الفرنسي وطالبنا بالإستقلال.
يبقى الإستقلال شئنا أم أبينا، فنحن ربما شعب لا نستحقه، أو لم نستطع الحفاظ عليه وصونه. نحن شعب لم نفهم أن الإستقلال وديعة مقدّسة، وهو أمانة في أعناقنا، إنّما للأسف استهترنا بهذا الإنجاز، وبدلًا من أن نعمل معًا على ضمان هذا الإستحقاق، إنهارت أسسه لأنه لم يُبنَ على دعائم قوية ومتينة.
لقد سمحت لي الفرصة مؤخرًا أن أنشّط الذاكرة حول نشأة الدستور اللبناني، من خلال ما تتلقاه ابنتي من دراسة الحقوق، واتابع معها بعض النقاط، فعمّقت معلوماتي من لحظة إعلان دولة لبنان الكبير مرورًا بدستور ١٩٢٦ ووصولًا إلى دستور الطائف. استنتجت أن بلدنا حظي بفرص عديدة ليصير بلدًا مميزًا واستثنائيًا، لكن للأسف هذه نتيجة ما وصلنا إليه، لأن البنّائين أنشأوا وطنًا على مقاس مزارعهم لكي يبقوا متحكمين بهذه النعاج، والتي للأسف تُساق إلى حظائر سلّاخينها لا إلى رعاتها. فلو قدّر للذين ساسوا لبنان منذ نشأته أن يكونوا رعاةً بكلّ ما للكلمة من معنى لما وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم من "زريبة" بكل ابعادها.
أقول هذا الكلام، وفي قلبي حسرة ووجع. حسرة على بلدٍ صنعه الله، ووجع على ما آلت إليه ظروف المواطنين ولا سيما في موضوع الدواء. وقد لمست هذا الوجع شخصيًا كباقي المواطنين، بحيث وصل بي الأمر لأفتّش عن دواء السكري الذي أعاني منه، فلم أجد حبّة واحدة في معظم الصيدليات التي قصدتها. هذا نموذج عمّا يعانيه المواطن في لبنان، ناهيكم عن الأموال التي يدفعها المريض للمستشفيات كفرق عن الضمان أو شركات التأمين.
المأكل والمَلبس والتعليم وأبسط وسائل الحياة، ليست نقطة في بحر ما يعانيه المواطن المريض. فإلى متى سنبقى صامتين؟ إلى متى سنبقى مذلولين؟ وإلى أين المصير؟.
كيف يستطيع لبنان أن يحتفل بالإستقلال وشعبه يرزح تحت ضائقة إقتصادية مزمنة؟ إنه فعلًا إستغلال وليس باستقلال. إننا لا نستحق هذا الفخر الذي تحقق في ٢٢ تشرين الثاني ١٩٤٣. لقد برهنت السنين والتجارب أن هذا الوطن لا يقوم من تلقاء ذاته، لأننا مسيّرون ولسنا بمخيّرين. إننا شعبٌ اعتاد على حكم الغريب، وأكبر دليل أننا ننتظر كلمة السر في كل أزمة من الدول الشقيقة والصديقة، وعليه لا يمكننا أن نلوم المستهزئين في هذه المناسبة، مع ما يتحملونه من مسؤولية.
عمر لبنان مئة عام، وطوال هذا القرن ما كان لبنان دولة، لا في ظل الانتداب ولا في ظل الميثاق، ولا في ظلّ أفضل الرؤساء أو في ظل أضعفهم. لا في حقبة الفتن ولا في حقبة الحروب اللبنانية. لا في ظل الدستور القديم ولا في رحاب الطائف الذي صاغه نوّاب تحت ضغط الدول دون شعور بالحرية. ولا مرة لبنان كان دولة. لأننا ابتلينا بالمعاصي ولم نستتر.
فما كدنا ننتهي من بطش العثماني إلا وجاءنا بطشٌ غيره. مرّة بطش من "صديق" ومرّة من عدو. حتى بات اللبناني ضائعًا بين من يسمّي صديقًا أو عدوًا. فأشدّ بطش يأتيك من "الإخوة". ألم يحن الوقت لنعرف مَن سيلعب النهائي على حلبة لبنان؟ ألم يحن الوقت لنعيش الإستقلال الحقيقي؟ والذي ينطلق من شعورنا أولًا بالتحرر الذاتي. متى ستأتي الساعة التي فيها نؤسس دولة سيّدة حرة مستقلة بكل ما للكلمة من معنى. فلو كنا فعلًا مستقلين منذ الإستقلال لما استطاعت دولة أن تركعنا.
كيف للمسؤولين أن يشاركوا في احتفال الإستقلال ومجلس الوزراء لا يستطيع أن ينعقد؟ كيف لهم أن يتقبّلوا التهاني من الدول في هذه الذكرى وهم أنفسهم مرتهنون أو مكبّلون؟.
ويبقى القول في هذه الذكرى أن الجيش هو الأمل، لكنّه لا يستطيع أن يؤمّن للمواطنين الدواء والطعام وإلى ما هنالك. وصلاتي لله ان يحفظ هذا الجيش مع كل ما يملك من عقيدة وطنية، وألا يسقطوه في فخ السياسيين.
قرأت مرة شعارًا لهذه الذكرى يقول: "الإستقلال= جيش يحمي وشعب يبني)، إلا أن هذا الشعار لم يعد له مقوّمات، فجيشنا بالكاد قادر على الحماية والشعب أفقروه ولم يعد بإمكانه البناء، والعدالة غائبة أو مغيّبة. فيبدو أننا مقبلون على إنهاء المقومات الأساسية للدولة، وهذا ما عبّر عنه الفاتيكان بالأمس حينما دق جرس الإنذار حول زوال مقومات الدولة في لبنان، في حين أن المسؤولين يتباهون بالقول إن لبنان أفلس، ويبشروننا بأيام أصعب وأخطر قادمة على هذا البلد.
فأين الدول الصديقة وأين الدول الشقيقة؟ لماذا قسم كبير من الشعب يدفع ثمنًا عن الآخرين؟ فهل اهتمام الدول في لبنان متوقف على الإصلاحات والإنتخابات والسلاح وترسيم الحدود؟ أم أن ما يحويه بحر لبنان من ثروات بات نقمة بدلًا من أن يكون نعمة؟ كل هذه الدول تتباهى بالإهتمام بلبنان ويبدو أننا نعيش مقولة: "ومن الحب ما قتل".
يقول سفر المزامير: الاحْتِمَاءُ بِالرَّبِّ خَيْرٌ مِنَ التَّوَكُّلِ عَلَى الرُّؤَسَاءِ" (118 :9)، يقرر المزمور هنا حقيقة هامة، وهي أن الاتكال، والاحتماء بالله وحده، وليس على أي إنسان، لأن الله وحده هو القادر على كل شيء، أما البشر فضعفاء.
وفي ذكرى الإستقلال نقول لك يارب أنت القادر وحدك أن تخلّص لبنان، فخلّصنا يا رب وارحمنا بعظيم رحمتك.