الحياةُ لِـمَن رامَ المجدَ، وما مجدٌ لا يُكلِّلُه التواضع. تواضعُ المجدِ هو انتصارُ النُبلِ على خُيَلاءِ الغرور. لدينا الغرورُ والخُيَلاءُ ويَنقُصُنا المجدُ والنُبل. ليس المجدُ، بالضرورةِ، انتصارًا سياسيًّا أو عسكريًّا، فَكَم انتصاراتٍ تَسلَّقت على الدِماءِ والفسادِ والحِقدِ والغِشّ ولامسَت خيبةَ الانْكِسار. وكَم انكساراتٍ ظنّها أصحابُها انتصاراتٍ وسَعَوا إلى توريثِها.
هناك مجدُ الأعمالِ الخالدةِ الفِكريّةِ والعِلميّةِ والفنيّة، ومجدُ الكرامةِ والقيمِ والفضائل، ومجدُ الإحساسِ بالنعمةِ والحُبور والسلامِ مع الذاتِ. هناك مجدُ الإيمانِ بالوطنِ والأمّة، ومجدُ التحريرِ والحرّية، هناك مجدُ الانتماءِ إلى دولةِ القانونِ والجبينِ العالي، ومجدُ الانتسابِ إلى التقاليدِ والتُراث، ومجدُ الشعورِ القوميِّ الرحيب. هكذا يرتفعُ الفردُ وتَسْمو الشعوبُ وتَرتقي الأمَم.
وصْمةُ أكثريّةِ أهلِ الشرقِ وعِلّــتُها أنّها غَلَّلَت مجدَها بالقوميّةِ الأحَديّةِ، وأوْثَقت قوميّتَها بالدينِ وجَرّحَت دينَها بالسيف، ولا تَعرِفُ كيف تُعيدُه إلى غِمْدِه. وإذا السيوفُ كانت زينةَ الرجالِ في الجاهليّةِ، فيُفترَضُ أن يكونَ السلامُ أصبحَ زينتَهم بعدَ الإسلام. لكنَّ ما حصلَ هو العكس: ظَلَّ عنترةُ بن شَدّاد "يَذكُرُ والرماحُ نواهلٌ، ويَوَدُّ تقبيلَ السيوفِ لأنّها لـمَعَت".... وفي أوروبا بَقيت سيوفُ المسيحيّين تَلمعَ في حروبٍ دينيّة ٍكأنْ لم يأْتِ المسيحُ ولم يَفتَدِ، ولا الإنجيلُ دعا إلى أنْ نُحبَّ أعداءَنا. بعد حربِ الثلاثين سنةً (1618/1648)، قال المؤرخ أوليڤيه شالين: "لو جرت حربٌ بين البروتستانت ووثنيّين لكانت أقلَّ عنفًا من تلك التي بين البروتستانت والكاثوليك".
غريبٌ أن يَبحثَ الإنسانُ عن مجدٍ في الغريزة. إنَّ مجدَ الشرقِ الحقيقيَّ، بل مجدَ الإنسانِ في مكانٍ آخَر: هو حَبْكُ كلماتٍ هَلَّت علينا آياتٍ وسُوَرًا عبرَ كتبِ الله والأنبياءِ والمرسَلين. هو أنَّ جميعَ شعوبِه هي شعوبُ الله المختارَة، وجميعَ أراضيه هي أراضي الميعادِ بين الإنسانِ والإنسان وإلا اعتذرَ اللهُ عن الحضور. هو أنَّ شعوبَه أُعطيَت حرّيةَ اختيارِ دينِها بين المسيحيّة والإسلامِ واليهوديّة، وحرّيةَ اختيارِ تشريعِها بين الدينِ والعلمنةِ، وحتى الإلحاد. هو تلك الثرَواتُ العابرةُ الحدودَ والأعماقَ تَنتظر يدًا وطنيّةً تَستَخْرجُها لمصلحةِ مجتمعاتِها وتَقدُّمِها. لكنَّ الشرقَ قدّمَ ثرواتِه للاستعمارِ ووظّفَ الأديانَ في الحروبِ الأهلية. وعِوضَ أن تكونَ هذه الثرَواتُ مصدرَ
أمنِه القوميِّ جَعلها ثمنَ أمنِه المستعار. وبَدلَ أن تكونَ الأديانُ مبعثَ سلامِه واستقرارِه جعلها ذرائعَ فتِنٍ متنقِّلَةٍ وعنفٍ متمادٍ.
قبل مجيءِ المستعمِرين، كانت غالِبيّةُ حروبِ الإسلامِ أهليّةً ودارَت بين خلفائِه وسلاطينِه ودولِه ومذاهبِه. كان إسلامُ الرسالةِ يَتفرّجُ بألمٍ على إسلامِ الخلافةِ في اقتتال، لا كأنَّ نبيًّا قَرأ ولا قرآنَ انتشَر. وما اجتاحَ الغربُ الشرقَ إلا بعدَ أن غزا الإسلامُ الغربَ وتمادى في احتلالِ أورشليم. ولـمّا بَرزت القوميّاتُ التي، ولو مؤمِنةً، رَفعت لواءَ العَلمنةِ كما حالُ فِكرة القوميّةِ اللبنانيّةِ مثلًا، زُجِرَت وصُدَّت وصُدِّعَت. وها لبنان، منذ تكوينِ دولتِه القوميّةِ سنةَ 1920، ما زال يَدفع ثمنَ رفضِ الشرق إيّاها. ولم يَشفَع به اعترافُ الّذين اجتمعوا في الطائفِ سنةَ 1989 بالهُوِيّةِ العربيّة، إذ بَرزت حالةٌ شيعيّةٌ تريدُ تلزيقَ القوميّةِ الفارسيّةِ إضافةً أو بديلًا.
حين يعتبرُ شعبٌ أنَّ قوميّتَه تَتفوّقُ على سائرِ القوميّات، تبدأ صراعاتُ الشعوبِ وحروبُها اللامُتناهية، فتنتقلُ القوميّةُ من إطارٍ تاريخيٍّ وجُغرافيٍّ وحضاريٍّ يَحمي شعبًا خاصًّا إلى قاعدةٍ لانطلاقِ الهيمنةِ على الشعوبِ الأخرى. وإذا كان تقدّمُ البشرية لم يُلغِ القوميّاتِ لأنّها حقيقةٌ تاريخيّة، كان يجدرُ به أن يُلغيَ الحروبَ من خلالِ تنظيمِ العلاقاتِ بين الأممِ لتَبلُغَ المجدَ الحقيقيّ. غريبٌ عجزُ البشريّةِ عن وضعِ خريطةِ إنقاذِ العالمِ من شرِّ القوميّاتِ السلبيّةِ وتثبيتِ السلامِ الدائم بين المجتمعات. وغريبٌ أن نَعيشَ على الأمجادِ الـمُسْتقرَضة. رغمَ الإبداعِ الفكريِّ والعلميِّ ونبوغِ الذكاء الطبيعي واختراعِ الذكاءِ الاصطناعيّ، ورغمَ المنتدياتِ والحواراتِ والمؤتمراتِ الإقليميّةِ والدوليّة، والتحالفاتِ العابرةِ القارات والاتّحاداتِ القارّية، لا يزال العالمُ يعيش بين حروبٍ باردةٍ وأخرى ساخنة. لا الأديانُ أقامت السلامَ ولا العقائد، لا الأنظمةُ الديكتاتوريّةُ ولا الديمقراطيّة. نزعةُ الهيمنةِ تفوقُ نزعةَ السلام.
في لبنان كلُّ مرحلةٍ تاريخيّةٍ كانت ضحيّةَ قوميّةٍ ما. وكل قوميّةٍ حَسِبَت لبنانَ منها ولها وأَنْكَرت عليه قوميّتَه الجامِعةَ جميعَ أحاسيسِ الشرق وعِطرِ قوميّاتِه. الإيجابيُّ في هذا الواقعِ أنَّ صراعَ القوميّات على لبنان يَطعَنُ في أحقيّةِ ادِّعائها، ويُثبِّتُ وجودَ قوميّةٍ لبنانيةٍ خاصّة. والسلبيُّ أنَّ هذه القوميّاتِ تَحوّلت عصبيّاتٍ ونأتْ عن أفكارِ مُطْلقِيها التاريخيّين وفلسفاتِهم. وحين تَتحوّلُ القوميّةُ ميليشياتٍ وأذْرعًا إرهابيّةً لأنظمةٍ أو تنظيماتٍ تَخسَرُ وكالتَها عن شعوبِ الأمّة. ربما بدا هذا التحوّلُ الانحطاطيُّ عودةً، بل تراجعًا إلى الجذور. فالقوميّاتُ أصلًا هي مجموعةُ عصبيّاتٍ صغيرةٍ ومتفرِّقةٍ ومتجاورةٍ تراكَمت وأصبحت، بحكمِ المصالحِ المتبادَلةِ وضروراتِ التضامن في المكان، قوميّةً عامّةً على صعيدِ المدائنِ والدول. في كتابه "إِحدى وعشرون أمثولةً للقرن الحادي والعشرين"، يروي يوڤال نوح أريري أنَّ القوميّةَ الـمِصريّةَ نشأت من خلالِ تَضافرِ جهودِ القبائل لبناءِ سُدودٍ تَصُدُّ فيضانَ نهرِ النيل، وتطوّر هذا التضامنُ إلى أنْ أصبحَ شعورًا قوميًّا عظيمًا...
منذ تلك العصورِ الغابرةِ لم تختفِ القوميّةُ المصريّة، ومنذ زمنِ التوراةِ والكتبِ المقدَّسةِ لم تَتوارَ الحالةُ اللبنانيّةُ بل أصبَحت شعورًا قوميًّا بفعلِ الخصوصيّاتِ اللبنانيّةِ في هذا الشرق، وبفضْلِ مقاومةِ اللبنانيّين من
أجلِ الحرّيةِ والكرامة. ويستحيلُ، بالتالي، على أيِّ قوميّةٍ أخرى مهما اتسَعَت جُغرافيّتُها، أو على أيِّ دولةٍ مهما تَجبّرت، أن تَقضيَ على القوميّةِ اللبنانيّةِ ولو انزوَت هذه مُوَقّتًا في جبلٍ يَرشَحُ شهداء. إن حبرَ القوميّةِ الصحيحةِ لا يُمحى كحِبرِ الدساتير، وكلّما حاول البعضُ مَـحْوَه يَتعتَّقُ حبرُهُ ويلتمِعُ أكثر لأنّه ممزوجٌ بدماءِ الأجيال. الواقعُ أنَّ القوميّةَ اللبنانيّةَ هي الوحيدةُ التي في هذا الشرق تَجسّدَت في دولةٍ/وطن، بينما القوميّاتُ الأخرى لا تزال تَجوبُ في عالمِ النظريات، لاسيّما القوميّتان السوريّةُ والعربيّةُ إذ الشعوبُ المنتشرةُ في أراضيها تُطالب بالاستقلالِ والحكمِ الذاتيِّ والانفصالِ ناقضةً بذلك وجودَ قوميّةِ واحدة. لقد تراجع دورُ الجغرافيا أمامَ حريّةِ الإنسان.
فرادةُ لبنان أنَّ جُغرافيّتَه، وإن كانت أصغرَ من طموحاتِ شعبِه، هي على قياسِ قوميّتِه، كما أنَّ قوميّتَه، وإن كانت مُلخَّصَ قوميّات، هي بذلك على قياسِ مكوّناتِه، شرطَ أَلّا تُشْرِكَ في الولاءِ للبنان فتَروحُ تبحثُ عن أمجادٍ هي دون مجدِ لبنان.