عندما تفقد السّلطة شرعيّتها وقوّتها وميثاقها من الشّعب، وعندما تتحوّل المقاومة سلطة تسقط عنها صفة المقاومة، فالاثنتان معًا ستصبحان هشاشة وعبثيّة، في الوقت نفسه. فمن البداهة أن تتوفّر لحظة قيام مقاومة داخليّة حقيقيّة وانتفاضة وثورة قويّة لا محالة تعيد بناء وترميم ما شُرّع بحسب الغرائز النّفعيّة وإعادة هيكلة الإدارات الّتي تآكلها سوس الفساد.
كثرت الأصوات المندّدة بـ"القرف" واليأس من كلّ ما نعيشه، كأنّ الحياة أصبحت عبئًا لا نعمة ومتعة ولذّة. ولقد صدق القول الّذي ينسب إلى الإمام محمّد عبده: "ما دخلت السّياسة شيئًا إلّا أفسدته! نعم! لقد دخلت السّياسة عمق الحياة اللّبنانيّة، وسبّبت وتسبّبت في انهيار البلاد والعباد على المستويات كافّة، وما من خطّة طريق واضحة المعالم تلوح في الأفق. في المقابل، يبقى موقف الشّعب مجرّد كلمات، هي، على قسوتها، ضعيفة، ومفاهيم جاهزة أو استعارات فارغة بمعنى "كلّن يعني كلّن"، أو "حرب ضدّ الفساد"... فأين محدّدو بوصلة هذا البلد الضّائع والمتّجه بخطى ثابتة نحو جهنّم؟ أين المشرّعون الحكماء الشّرفاء؟ وأين القضاة الأنقياء؟ والنّقابات والمناقبيّون؟ بل أين المثقّفون والمبدعون والإعلاميّون المخضرمون؟ أين الفلاحون والصّناعيّون والتّربويّون والجامعيّون؟ بل قل أين الشّعب من يوسف سودا، وميشال شيحا، وفيليب تقلا، وداود عمون، وشبل دموس، وألفرد النّقاش، وشكري غانم، وشارل دباس، وخيرالله خيرالله، والأخوة مكرزل، وإيليّا أبو ماضي، ومخائيل نعيمه، وجبران خليل جبران وسواهم كثر لا سبيل إلى حصرهم، إنّما ما جمعهم إلّا همّ استقلال لبنان وحبّه.
فإذا كانت ثورة 17 تشرين الأول 2019 لم تحقّق أهدافها، وأوصلت الشّعب بسرعة أكبر نحو العناء، ولو لم تكن تلك غايتها، ذلك لأنّها لم يقف خلفها ولم ينظّر لها ولا قبلها ولا بعدها، مشاريع فكريّة لديها قابلية إنتاجيّة لإصلاح الحكم. إنّ الثّورة لم تكن يومًا، ولن تكون، خرائب الهزيمة، إنّما نضال متراكم. فنحن نحتاج إلى ثورة شاملة كما هي الأزمة شاملة. لقد استوعب الشّعب وتأقلم؛ أما حان الزّمان لتقترب اللّحظة بعد؟.
لقد حدّد البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الرّاعي عشيّة عيد الاستقلال إشكاليّة وطننا فقال: "إنّ الإستقلال يشكو اليوم من وجود مسؤولين وقادة وأحزاب غير استقلاليّين. لا يتعايش الاستقلال مع ولاء فئات من الشّعب لوطن آخر، ولا مع ضعف الدّولة أمام الخارجين عنها وعليها". وكان قد قدّم النّموذج والمشروع الوحيد الّذي يضمن خلاص لبنان وكيانه وسيادته ووحدته، ومازال ينادي به "حياد لبنان النّاشط". هذا المشروع لا يختلف عن إبداعيّة رياض الصّلح "لبنان لا للشّرق ولا للغرب"، وأيضًا عن إعلان بعبدا 2012، "النّأي بالنّفس"، هذا الإعلان أرجأ الأزمة الّتي نعيشها اليوم، إلّا أنّ غياب خطّة إنقاذ جديّة، أو تبنّي أيّ مشروع سوى مشروع المقاومة الّتي أصبحت بالفعل نفسه هي السّلطة الحاكمة، فلا بدّ من سقوط الدّولة ومقاومتها معًا.
والقلق الأكبر الّذي ينسف قيم المواطنة والحرّيّة والاستقلال والكرامة والكيان في لبنان، أصوات تدعو إلى انتداب جديد، أو احتلال جديد. فإنّ أيلول 1920 وتشرين 1943 أعطيا الأجداد قوّة وصبرًا ونضالًا ومجدًا للبنان واستقلالًا. لقد أوصل السّياسيّون الشّعب إلى الكفر بالحرّيّة والسّيادة والكرامة ليترجّى الذّل والعبوديّة.
كلّ الآمال معقودة على الانتخابات القادمة، ومشاركة المغتربين كما المقمين في هذه الانتخابات، إلّا أنّني، بعدما سقط كلّ أمل أرضيّ، ارتفع رجائي بالله وبقدّيسي لبنان ومحبّي السّلام. إنّ استقرائي لواقعنا الأليم يُظهر أن لا خلاص لنا إلّا بمعجزة إلهيّة لبنانيّة. فلنصلِّ ونتضرعْ، فلم يبقَ أمامنا سوى الصّلاة.