في الوقت الذي تشتد فيه الأزمة في لبنان، على وقع العقبات الداخليّة المتمثّلة في الخلافات بين الأفرقاء السياسيين المحليين، وتلك الخارجية المرتبطة بالصراع الأميركي-الإيراني والإيراني-السعودي على مستوى المنطقة، يبدو أن ملامح التسويات بدأت تلوح في الأفق مع إقتراب العديد من المواعيد المهمة.
على المستوى الداخلي، قد يكون موعد الإنتخابات النيابية المقبلة هو الأهم، في ظلّ الرهانات الكبيرة على دورها في قلب الموازين أو إعادة تكريس الأكثريّة النّيابية التي تمثلها قوى الثامن من آذار، أما على المستوى الخارجي فإنّ المفاوضات في فيينا حول الإتفاق النووي هي العنوان الأبرز، نظراً إلى ما تحمله معها من تداعيات.
بالنسبة إلى الإستحقاق الإنتخابي، التداعيات لن تكون مقتصرة على الأكثريّة النّيابية، التي قد تتعطّل بفضل نظريّة الديمقراطيّة التوافقيّة في لبنان، بل أيضاً على مستوى الإستحقاق الرئاسي الذي قد يكون الأهمّ في تاريخ البلاد، نظراً إلى ما سيترتّب عليه في المرحلة المقبلة، وسط مخاوف من أن تقود الخلافات إلى مرحلة طويلة من الفراغ، تكون مقدّمة نحو طرح تغيير أو تعديل النظام السياسي.
في هذا الإطار، قد يكون من اللافت أنّ الجانب السعودي، الذي يعتبر الراعي الرسمي لإتفاق الطائف، طرح، في أكثر من مناسبة في الفترة الماضية، نظريّة تغيير النظام السياسي، على ضوء الأزمة الدبلوماسيّة التي نشأت على خلفيّة تصريحات وزير الإعلام جورج قرداحي، بينما في المقابل كانت أكثر من جهة محلية تطرح الأمر نفسه، بسبب العقبات التي ظهرت في السنوات الماضية، لا سيما بعد العام 2005.
في هذا السياق، قد يكون من المفيد الإشارة إلى أن "دستور الطائف" فقد، منذ إغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، ركائزه الأساسية: الركيزة الدولية بعد إنسحاب الجيش السوري من البلاد وسقوط التفاهم على رعاية دمشق لهذا الإتفاق، الركيزة الإقتصاديّة والماليّة بعد الإنهيار الذي حصل بعد إنتفاضة السابع عشر من تشرين الأول من العام 2019، بينما تبقى الركيزة السّياسية معطّلة، بالرغم من التعديلات التي أدخلت عليها بعد إتفاق الدوحة في العام 2008.
في ما يتعلق بالتداعيات التي قد تترتب على أيّ إتفاق جديد بين الولايات المتحدة وإيران، من الضروري الإشارة إلى أنّ هذا التحول، الذي سيكون مرتبطاً بالدرجة الأولى بالرغبة الأميركية في التركيز على ملفات أخرى كالصراع مع الجانب الصيني بشكل أساسي، من المفترض أن يعالج مسألتين أساسيتين:
-الأولى هي المخاوف التي لدى بعض الدول العربيّة من نفوذ طهران، خصوصاً السعوديّة، بعد ما شهدته الساحة الإقليميّة من تداعيات نتيجة الإتفاق الأول الذي حصل في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما.
-الثانية هي المخاوف الإسرائيليّة التي تتعاظم يوماً بعد آخر، خصوصاً بعد حرب تموز 2006، الأمر الذي دفع بالعديد من المسؤولين في تل أبيب، خصوصاً في الأسابيع الماضية، إلى الإعلان عن عدم إلتزامهم بأيّ إتفاق قد يحصل.
بالعودة إلى موقع لبنان وسط إعادة رسم خارطة المنطقة، وجب الإشارة إلى عاملين أساسيين: الأول هو الإنفتاح العربي على سوريا، الذي تقوده الإمارات، التي كانت قد ذهبت في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى إتفاق تطبيع العلاقات مع إسرائيل. أما الثاني، فهو الصراع على مكامن الطاقة في شرق البحر المتوسط، بين العديد من الجهات الإقليمية والدولية.
بالنسبة إلى العامل الأول، من الضروري النظر إلى تزامن الإنفتاح الإماراتي، الذي تمثل بالزيارة التي قام بها وزير الخارجية عبد الله بن زايد آل نهيان إلى دمشق، مع إنفجار الأزمة الدبلوماسية بين لبنان وبعض الدول الخليجية، لا سيما السعودية التي لا تبدو بعيدة عن هذا الإنفتاح.
أما في ما يتعلق بالعامل الثاني، فإن الحديث عن أجواء إيجابيّة ترافق مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، التي يقوم بها الوسيط الأميركي آموس هوشستين، لا ينبغي تجاهله، خصوصاً بعد المعلومات عن وضعه مهلة زمنيّة لإنجاز مهمته لا تتجاوز موعد الإنتخابات النّيابية المقبلة في لبنان.
الإنسحاب الخليجي من لبنان، أو الإنسحاب السعودي تحديداً، يعود إلى قناعة المملكة بأنه من غير المفيد لعب أيّ دور في البلاد، في ظلّ التوازن القائم، الذي تعود فيه الغلبة إلى المحور المقابل، على عكس وجهة النظر الغربيّة، لا سيما الأميركيّة-الفرنسيّة، التي تراهن على نتائج الإنتخابات النّيابية لقلب موازين القوى، بينما هناك من يعتبر أنّ الفريق القادر على تأمين التوازن في المعادلة هو الجانب السوري، نظراً إلى خبرته في الأوضاع الداخليّة اللبنانيّة.
أصحاب هذه النظرية، يعوّلون على جهود تأمين عودة دمشق إلى "الحضن العربي"، عبر المشاريع الإقتصاديّة، التي يقودها بشكل أساسي الملك الأردني عبد الله الثاني، الأمر الذي سيدفع، من وجهة نظرهم، إلى إبتعادها عن طهران، في ظل التنافس القائم بين الجانبين الروسي والإيراني في سوريا.
هنا، تبرز مشاريع الغاز الكبرى في المنطقة، من خطوط الإمداد التي تبدأ من مصر وصولاً إلى لبنان، بحجة مساعدة الأخير على تجاوز أزمته الإقتصاديّة، الأمر الذي لا يمكن أن يكون من أجل هذا الهدف فقط. بالإضافة إلى الحضور الإماراتي، غير المباشر حتى الآن، في ملفّ ترسيم الحدود البحريّة، عبر طرح تسليم شركة إماراتيّة حقول النفط التي قد تكون مشتركة بين بيروت وتل أبيب.
في المحصّلة، هذا الواقع، الذي يشير إلى معادلة أن لبنان يسير في حقل ألغام خطير، بعد أن كانت المظلّة الدولية تمنع إنزلاقها إلى "وحول" المنطقة في السنوات الماضية، تحديداً منذ العام 2011، يجعل البلاد مفتوحة على كافة الإحتمالات، بالرغم من الحرص على الحفاظ على الحدّ الأدنى من إستقراره، الذي تعبر عنه الجهات الدولية الفاعلة، نظراً إلى أن لبنان دخل عملياً مرحلة اللّعب على حافة الهاوية، إذ قد يدفع الثمن في أيّ لحظة غير محسوبة النتائج.