تشخص الأنظار في الشرق الأوسط على جولة التفاوض الجديدة حول الملف النووي في فيينا بعد أن تأخّر موعد انعقادها كثيراً.
الإنطباع الغالب هو أنّ هذه العودة إلى الاتفاق مسألة محسومة ليجري معها طمس مرحلة والبدء بمرحلة جديدة على صعيد خارطة النفوذ في المنطقة. وليس سراً أنّ لبنان هو أحد اكثر الساحات تأثراً بخارطة النفوذ السياسي الجديدة في المنطقة، بحكم الوجود القوي لـ»حزب الله» أحد اهم حلفاء ايران والأكثر قدرة وخبرة متتالية وتنظيماً.
وإلى جانب ذلك، ثمة أزمات عاصفة تهزّ الكيان اللبناني وتدفع به ليكون جاهزاً أمام إعادة تدوير زواياه بما يتلاءم مع التوازنات الإقليمية الجديدة المطروحة.
لا جدال بأنّ الانهيارات الاقتصادية والمالية والمعيشية التي تضرب لبنان، ساهمت في تفكّك العديد من إدارات وأجهزة الدولة اللبنانية، والتي شكّلت طوال العقود الماضية مغاور للفساد والمحسوبيات والزبائنية السياسية، لصالح الطبقة السياسية.
وكان لا بدّ لهذا الهيكل المهترئ أن يسقط يوماً، لكن ارتفاع مستوى الفساد إلى درجة الوقاحة واستخدام الدولة كمطية للمصالح السياسية من دون خجل خلال السنوات الماضية، أدّى إلى تسريع حال الانهيار، أضف إلى ذلك إحجام العواصم الغربية الغنية عن مساعدة الحركة الاقتصادية اللبنانية. ومعه كان واضحاً موافقة العالم الغربي على تفكّك مفاصل وإدارات الدولة اللبنانية بإستثناء الجيش، تمهيداً لإعادة بناء دولة جديدة وفق أسس حديثة ووفق توازنات سياسية جديدة تتلاءم مع التوازنات الإقليمية الكبرى. والواضح أنّ الحرص الغربي على الجيش، إضافة إلى نجاح المؤسسة العسكرية على اجتياز المرحلة الصعبة والخطرة في لبنان بأقل الأضرار الممكنة، إنما يهدف اولاً لمنع إنزلاق البلد في أتون الفوضى الشاملة وتفكّك المناطق اللبنانية وتمزّق النسيج الاجتماعي اللبناني من جديد حلال مرحلة تفكّك المؤسسات الرسمية. وثانياً الارتكاز على الجيش كقاعدة صلبة لإعادة بناء مؤسسات الدولة من جديد عندما يحين الوقت.
استحقاقان أساسيان ينتظران لبنان ليشكّلا معاً نقطة الانطلاق باتجاه الحقبة الجديدة التي تنتظر لبنان. الأول وهو الاستحقاق النيابي، والثاني وهو الاستحقاق الرئاسي. وبمعنى أوضح، من المفترض أن تشكّل نتائج الانتخابات النيابية البنية التحتية للنظام السياسي الجديد، وان يشكّل وصول رئيس جديد للجمهورية انجازاً لتفاهمات سياسية جديدة وتدشيناً لحقبة ستدوم عقود عدة إلى الأمام.
مع الأسف بعض القوى السياسية، ولا سيما المسيحية منها، لا تزال تتعاطى مع الاستحقاق النيابي من زاوية ضيّقة جداً، ولها علاقة بتحصيل مقاعد او حجز مساحة نفوذ داخل المجلس النيابي. وكما في محطات تاريخية سابقة ومنها على سبيل المثال محطة 1989-1990، فإنّ القوى المسيحية لا تبدو جاهزة وحاضرة لمواكبة التحولات الكبرى، وهو ما يجعل المسيحيين ضحيتها في كثير من الأحيان. من هنا الاهتمام الاستثنائي للفاتيكان تجاه الملف اللبناني، فهو يدرك جيداً ما يحصل في الشرق الاوسط لناحية إعادة رسم خارطة المنطقة، وهو يدرك ايضاً مدى ضعف الرؤيا لدى المسؤولين المسيحيين. لذلك، ربما لم يتردّد البابا فرنسيس في اتهامهم علناً في رسائل ثلاث، منذ عيد الميلاد الماضي، بالأنانية وتغليب المصلحة الخاصة على المصلحة العامة.
ad
ولم يعد سراً انّ رأس الكنيسة الكاثوليكية لا يترك لقاء له مع مسؤول دولي كبير الّا ويطرح الملف اللبناني، ويطلب بإلحاح الّا يكون لبنان ثمناً للتسويات الاقليمية الحاصلة. ويجري الآن التحضير لزيارة سيقوم بها وزير خارجية الفاتيكان الى لبنان مطلع شهر شباط المقبل، لمتابعة الملف اللبناني.
لذلك، يبدو الاستحقاق النيابي مهمّاً جداً في هذا الاطار. وبدا انّ المخاطر المطروحة والناجمة عن موجة الهجرة الواسعة للبنانيين محط اهتمام من المراجع الدولية المتابعة للشأن اللبناني.
من هنا ايضاً العدد الكبير نسبياً للبنانيين الموجودين في الخارج، والذين سجّلوا اسماءهم للمشاركة في العملية الانتخابية. ولا تبدو الاوساط الدولية قلقة من حصر اصوات 244442 لبنانياً سجّلوا اسماءهم في انتخاب 6 نواب فقط. الأرجح انّ المجلس الدستوري سيقسم جوابه رداً على الطعن الذي تقدّم به «التيار الوطني الحر» الى جزءين: الاول، ويقضي بالتأكيد على قرار السلطة الإجرائية في تحديد موعد حصول الانتخابات، اي شهر ايار المقبل. اما بقية الطعن فسيعمل على ردّه ولو من حيث الشكل، بما يعني انّ اللبنانيين في الخارج سيقترعون للمقاعد الـ 128.
والواضح هنا، انّ اقتراع المغتربين سيؤثر على النتائج في بعض الدوائر. وبعد اتضاح الخارطة الجديدة للمجلس النيابي المقبل من المفترض البدء بورشة إعادة ترتيب آلية عمل السلطة في لبنان، تمهيداً لإعادة بناء المؤسسات التي تهدّمت، وبمساعدة المؤسسات الدولية التابعة للامم المتحدة، او بكلام اكثر تعبيراً، بإعادة تركيب الدولة التي تفكّكت. هذه الورشة ستترافق مع ورشة المنطقة، وثمة صيغ عدة تُطرح للمشروع اللبناني، كمثل عقد مؤتمر دولي لإعادة انتاج لبنان الجديد. وتبدو في هذا الاطار فرنسا في طليعة المهتمين بتنظيم مؤتمر من هذا النوع، خصوصاً بعد تجربة مؤتمر سان كلو عام 2007. فلقد أعطت فرنسا يومها اشارة بأنّها مهتمة وقادرة في الوقت نفسه على رعاية مؤتمر لبناني له علاقة بإعادة انتاج صيغة حكم جديدة في لبنان.
والواضح انّ هذه الورشة الكبرى، والتي من المفترض ان تلي المجلس النيابي الجديد، ستشكّل المدخل الجدّي لانتخاب رئيس جديد للجمهورية. ولأنّ اعادة إنتاج صيغة حكم جديدة تستوجب ايضاً اكتمال الشروط الاقليمية المطلوبة، ومنها التفاهم على التسوية السياسية النهائية في سوريا، فإنّ الترجيحات لا تستبعد حصول فترة فراغ رئاسي قبل ولوج الحل النهائي.
مع الإشارة هنا الى انّ الترابط بين الملف اللبناني وملف التسوية في سوريا والملفات الاقليمية، له وجوه عدة، منها السياسية وتوازناتها، اضافة الى ملف الغاز وحصص الدول الكبرى، لا سيما روسيا.
هي الورشة الكبرى التي ستنطلق مع الانتخابات النيابية المقبلة، والتي ستُختتم مع الانتخابات الرئاسية، إيذاناً بإقفال المرحلة الانتقالية والبدء بالمرحلة التأسيسية.