أين هي الثورة وأين هم الثوّار؟
الكلّ يسأل، وليس فقط الشعب اليائس. حتى انّ السياسيين يتعجّبون كيف لا يتحرّك هذا الشارع الذي انتفض في الماضي رفضاً لزيادة بضع سنتات على «الواتس اب»، فيما هو اليوم وقد جاع وسلبت منه أمواله وتبخّرت قيمة مدّخراته ولم يعد قادراً على شراء الدواء أو مازوت التدفئة او غذائه المعتاد من دون أن يقوم بأي ردة فعل. هذه حال 80 % من الشعب اللبناني الذي بات يعتبر من طبقة الفقراء. تقارير المنظمات الدولية تشير الى نسب عالية من الاطفال ينامون من دون عشاء. كل ذلك والشارع هادئ ولا أصوات تدعو الى الانتفاضة على طبقة سياسية تعيش في قصور مضاءة ليلا ونهارا وتتمتّع بمباهج الحياة وتحكم سعيدة غير آبهة بمن يتضور جوعا أو بمن يموت على أبواب المستشفيات.
أين هم الثوّار؟ سؤال محيّر بالفعل؟ اين هم عشرات آلاف الناس الذين نزلوا في 17 تشرين مطالبين بمحاكمة الطبقة السياسية الفاسدة واسترجاع الاموال المنهوبة وقيام دولة القانون ووضع حد للفساد؟؟
تكثر التحليلات للاجابة عن غياب الثورة والثوار. البعض يعزو انكفاء الثوار الى الاحباط الذي أصاب الناس الذين نزلوا الى الشارع وبقوا فيه ثلاثة أشهر من دون أن يستطيعوا أن يهزّوا عروش السياسيين المسمّرين على كراسيهم.
والبعض يربط الانكفاء بالاستدعاءات التي طالت أعدادا كبيرة من الناشطين واجبارهم على توقيع تعهدات تلزمهم وقف نشاطهم.
هنالك أيضا الاعتداءات التي استهدفت الثوار وحرق خيمهم وتحطيم رموزهم وصولاً الى اطلاق النار عليهم وتحديدا على عيونهم من دون أن تتأمّن لهم أي حماية.
من الاسباب أيضا الانقسام الطائفي المفتعل بين الناشطين على غرار ما حصل مع لجنة ضحايا انفجار المرفأ، ما شرذمَ الحراك ووجّه جمعياته الواحدة ضد الاخرى.
وأيضا رضى الاحزاب السياسية عن الواقع المهترئ القائم لأنه يخدمها حتى تلك التي تصنّف نفسها في المعارضة، فكلّها تكتفي باتهام الاخرين أنهم سبب الانهيار، أما هي فتراهن على الاستحقاقات القادمة على أمل أن تقطف ثمن مواقفها.
وما يبدو واضحا من الأسباب أيضا فقدان قيادة حقيقية للمتظاهرين، اذ لم يبرز قادة او مسؤولون عن الحراك. وربما يكون هذا السبب هو الأهم.
ففي الواقع ان معاناة الناس منذ اندلاع ثورة 17 تشرين هي على ازدياد، وقد ازداد وجعهم وازدادت نقمتهم على الطبقة السياسية التي، ومنذ سنتين، لم تقم بأي مبادرة من شأنها تخفيف وقع الازمات المتتالية. غير أن هؤلاء الناس لا يترجمون غضبهم في الشارع، في غياب صوت قيادي جامع قادر على خلق دينامية يلتفّون حوله. وفي غياب قيادة تتضعضَع الطاقات.
من السهل مطابقة واقعنا اليوم على مسرحية الرحابنة «جبال الصوان»، حيث الحاكم «فاتك المتسلط» يمارس حكماً مستبداً بواسطة القمع والتهديد والسجن، ومن يجرؤ على رفع الصوت يكون مصيره المعتقلات، وكان الناس صاغرين، عاجزين. الى أن عادت «غربه» ابنة قائد الثورة الذي سقط في الماضي على يد الحاكم المتسلط. جاءت تكمل رسالة والدها: إنقاذ الشعب والوطن. صوتها الصادح كان بمثابة جرس الثورة. صرخت بالناس: «لا تخافوا. ما في حبوس تساع كل الناس. يلّي بخاف بيخسر».
رفعت «غربه» القضية بصدق لأنها ابنة القضية، حملت وجع الناس وهمومهم، ليس بحثاً عن منصب أو سعياً وراء صفقة. صوت «غربه» أشعَل جمر الثورة، فإذا بالشعب الخنوع الخاضع ينتفض ويطيح الحاكم وأزلامه. كانت صوت القيادة التي كان الناس في انتظارها.
ما ينقص الشارع اللبناني اليوم هو «غربه»، ترفع الصوت بصدق من أجل الشعب، لا من أجل كرسي مخملي أو مقعد نيابي. بل من أجل كسر قيود التسلط والفساد وبناء دولة الحرية والقانون.
يبدو النظام السياسي اللبناني اليوم مقفلا، عصيّا على التغيير، قادرا على أن يهزم أي طرح تغييري لأنّ الممسكين بالنظام، وان كانوا يتّهمون هذا النظام بكل سوء غير أنهم يدينون له بمناصبهم وببقائهم في كراسيهم. هم يمسكون بلقمة الفقير، يمسكون بالوظائف، يمسكون بالرخص، بالمعاملات على أنواعها، يتحكّمون بالمؤسسات ورؤوس المال، يضعون يدهم على الاملاك العامة، يؤمنون الحماية لأزلامهم أنّى ارتكبوا من مخالفات. كل هذا ولّد عند المواطن الشعور بأن من مصلحته أن يتزلّم لهم لضمان حياته اليومية وتأمين سير أعماله.
انها مسيرة الأنظمة السلطوية التي تعتبر أنها مصدر الأمن والحياة لشعبها، مصدر الخبز والماء، وله أن يشكرها على ذلك. أمّا الحرّيات العامة وتكافؤ الفرص وضمان البحبوحة والسعادة للناس فهذا ليس في قاموسها.
هكذا كانت الحال في الأنظمة الشيوعية أو الانظمة الديكتاتورية التي سحقت الكثير من الثورات التي حاولت التحرر منها، وفي بعض المرات سحقتها بجنازير الدبابات أو بالرصاص الحي. غير أن التاريخ يثبت أن لا تسلّط يدوم ولا ظلم يستوي، وأن ظلام الأنظمة المستبدة لا بدّ من أن يليه نور شمس الحرّية.