هناك أسباب كثـيـرة لا تُـحصى ولا تُعَدّ جعلت الليـرة اللبنانية تـنخفِض إنـخفاضاً حاداً أمام العملات الرئيسية كالدولار واليورو، ومنها على سبـيل الـمثال لا الـحصر، الوضع السياسي والأمنـي والإقـتصادي السيء، وفـقدان الثقة بالدولة ومؤسساتـها ومسؤوليها، وانـهيار الـمصارف، وانـخفاض الـموارد الإقـتصادية والإستـثمارات الـمحلية والدولية، وعدم قدرة الـمصرف الـمركزي على التدخُّل فـي سوق الصرف كما كان يفعل فـي السابق، عندما كان يرفع قيمة الفائدة على الليـرة اللبنانية ليجذُب أموال الـمودعيـن والـمغتـربـيـن، فيعـزِّز إحتياطاته بالدولار الأميـركي، من أجل تلبـية إحتياجات السوق...
فـي ستـيـنـيـات القرن الـماضي، رُبط الدولار بالذهب، حيث أنَّ معظم العملات كانت تُسعَّـر بالذهب وما تـملكهُ الدولة من الـمعادن النفيسة. ولذلك، عمل رئيس الـجمهورية الراحل الياس سركيس، رحـمات الله عليه، على إدخال لبنان فـي نادي الدول الذهبـية، بعد شرائه خـمسة ملايـيـن أونصة لـحساب الـخزينة حيـن كان حاكماً لـمصرف لبنان فـي أواخر الستـيـنـيات.
أمّا فـي بداية السبعيـنـيـات، فاتـخذ الرئيس الأميـركي ريـتـشارد نـيكسون سلسلة من التدابـيـر الإقتصادية، كان أهـمّها إلغاء التحويل الدولـي الـمباشر من الدولار الأميـركي إلـى الذهب... فتمَّ فكّ إرتباط الدولار بالذهب، وأصبحت قوّة العملة مرتبطة إرتباطاً وثيقاً بقوّة إقتصاد الدولة، وميزان مدفوعاتـها، ومعدّل التضخّم، وناتـِجها القومي، وحجم ديـنها العام، وأوضاعها السياسية والأمنية والإقتصادية، وأيضاً بـحسب العرض والطلب...
إذن، ليست "التطبـيقات الـمشبوهة" هي السبب الأساسي لارتفاع سعر صرف الدولار وتـخطّيه عتبة الـ 25000 ليـرة يا سعادة الـحاكم، بل تفكُّك الدولة واهتـراء مؤسساتـها، واستمرار الـمصرف الـمركزي فـي طبع العملة بكثافة لتلبـية إحتياجاتـها ومعاشات الـموظفيـن الـمحشوّين من قِبل الأحزاب فـي إداراتـها، فقفزت الكتلة النقدية من 23 تريليون ليـرة فـي آب 2020، إلـى أكثر من 60 تريليوناّ فـي تشرين الأول 2021، ما فاقمَ التضخّم الـمُفرَط و"بـهدل" الليـرة...
والذي سرّعَ فـي انـهيار عملتـنا الوطنية، فساد الـمسؤوليـن وجشعهم فـي النهب وفـي تقاسُم الـحصص ومناكفاتـهم وانقساماتـهم، والفراغ فـي السلطة وعدم مـحاسبة الفاسدين وناهبـي أموال الدولة وزجّهم فـي السجون، وعدم تطبـيـق قانون الإثراء غيـر الـمشروع واستـرداد الأموال الـمنهوبة والـمهرّبة، وانسداد الأفُق السياسي الذي يـبشِّرنا به كل أسبوع الأميـن العام لـ "حزب الله" السيد حسن نصرالله، فيمنع إنعقاد مـجلس الوزراء، ويهدِّد اللبنانيـيـن والقضاء بـمقاتليه وسلاحه، ويعزل لبنان عن مـحيطه العربـي والـخليجي ويأخذهُ إلـى حيث تريد إيران وأجنداتـها الإقليمية والإيديولوجية...
مَن هو الأبله الذي سيستـثمر فـي هذا البلد ويضع أمواله وخبـراته تـحت رحـمة حزب مسلّح بـ 100 ألف صاروخ و100 ألف مقاتل، لا يعتـرِف بالقضاء وأحكامه، دولياً كان أو وطنياً، ويـتّهم القضاة بالتسيــيس والإستـنسابـية ؟
وكيف يـُمكِن إعادة بناء الدولة واستـرجاع الثـقة بـمؤسساتـها بوجود دويلة أقوى من الدولة، تشرِّع الـمعابر غيـر الشرعية، وتشارِك وتـحمي الـمهرِّبـيـن والفاسدين وناهبـي أموال الدولة ؟
لا يا سعادة الـحاكِم، ليست "التطبـيقات الـمشبوهة" هي التـي نـهبت أموال الدولة وأموال الـمودعيـن وأفلست البلد ودمّرت إقتصاده وقضَت على الليـرة وعلى معيشة اللبنانيـيـن وحياتـهم، بـل تواطؤ "حزب السلاح" مع "مافيا الـحرامية" و"مافيا عبّاد السلطة" وحـمايـتهم، ما داموا يـرضخون لرغباته ويُغطّون مشروعه الإقليمي والإيديولوجي الأكبـر.
لا يُـمكِن أحداً التـنـبـؤ بالرقم الذي قد يصل إليه الدولار، كما لا يُـمكِن تبـرئة الـمنصّات والسوق السوداء من مسؤوليتها عن رفع سعر الصرف، ولكنَّ الـمشكلة الـحقيقية أعمق بكثيـر من قضية منصّات وتطبـيـقات مشبوهة. لقد بدأت الـمشكلة مع طبقة سياسية فاسدة مارست نـهباً منظّماً لـخزينة الدولة على مدى ثلاثيـن عاماً، وكرّست سياسة نقدية ريعية على حساب الإقـتصاد الـمُنـتِج، وانــتهت بـتسليم البلد إلـى حزب مسلّح، يُشكِّل الذراع العسكرية لإيران فـي لبنان والـمنطقة.
لن يستطيع لبنان الـخروج من كابوسه الإقـتصادي والـمالـي ويوقف إنـهيار سعر صرف الليـرة، ما لـم يُعلِن حياده الإيـجابـي، ويُسلِّم "حزب الله" سلاحه إلـى الـجيش اللبنانـي، وتـبدأ ورشة الإصلاحات السياسية والإقتصادية، وتُعلَن الـحرب الضروس على الفاسدين واللصوص، وتُستـردّ الأموال الـمنهوبة.