في نهاية أيلول الماضي، وبعد نحو ثلاثة أسابيع على تشكيل الحُكومة برئاسة نجيب ميقاتي، شكّل لبنان وفدًا(1) لإستكمال المُفاوضات مع صندوق النقد الدولي، والتي كانت قد بدأت مع الحكومة الماضية برئاسة حسّان دياب، قبل أن تتوقّف لنحو عشرة أشهر بفعل التطوّرات في البلد. وجاء في بيان التشكيل الذي صدر عن مكتب رئيس الحكومة في حينه أنّه: "... يتوجّب على لبنان إستكمال المُفاوضات مع صُندوق النقد الدَولي بالتزامن مع وضع وتنفيذ خُطة تعافي مالي وإقتصادي". فأين نحن اليوم من هذه الخطة، مع الإشارة إلى أنّ وفدًا من صُندوق النقد باشر إعتبارًا من أمس الثلاثاء مُحادثات في لبنان؟.
من الضروري الإشارة بداية إلى أنّه منذ إندلاع إحتجاجات 17 تشرين الأوّل في العام 2019 حتى اليوم، قامت السُلطات التنفيذيّة المُتعاقبة في لبنان، بنسب كل القرارات والإجراءات القاسية وغير الشعبيّة التي إتخذتها، إلى مطالب وشروط صندوق النقد الدَولي، علمًا أنّ هذا التبرير غير صحيح ويُشوّه الحقيقة، وهو مُحاولة للإختباء من الفشل الذريع، ليس في الشروع في مُعالجة الأزمة الإقتصاديّة-الماليّة فحسب، بل حتى في وقف الإنهيار أو التخفيف من سرعته! وصار من الواضح أنّ السُلطة في لبنان تُشوّه مطالب وشروط الصندوق الدَولي لمدّ يد المُساعدة للبنان، لتغطية عجزها، وهي تُحاول تحميل المُواطنين وزر وأعباء الإنهيار لإنقاذ نفسها لا أكثر. والأدلّة كثيرة، ومنها:
أوّلاً: صُندوق النقد الدَولي يُطالب بتحديد خسائر الدولة ومصرف لبنان والمصارف، وبتوحيد الأرقام في هذا الشأن، وبالإتفاق على توزيع عادل لهذه الخسائر بين هذه الجهات. في المُقابل، لا تزال الجهات المَعنيّة تتبادل الإتهامات وعمليّات شدّ الحبال في ما بينها، للتهرّب من مسؤوليّة كل منها في تحمّل قُسطه من الخسائر، والأخطر أنّ الجميع يُحاول الهروب إلى الأمام عبر تحميل المُودعين النسبة الأكبر من الخسائر التي وقعت، وهذا بالتأكيد ليس مطلب صُندوق النقد الدولي!.
ثانيًا: منذ البداية، طالب صُندوق النقد الدَولي بإقرار قانون "ضبط رؤوس الأموال" (Capital Control)، وبتوحيد تدريجي لسعر الصرف. والهدف من هذا الإجراء الذي يُتخذ في كل الدول التي تمرّ بأزمة إقتصاديّة وماليّة حادة، هو الحؤول دون هروب الأموال من مصارف البلد المَعني إلى الخارج، وتوحيد معايير قياس الخسائر ومعايير المُعالجة أيضًا. لكنّ ما حصل في لبنان، شوّه إجراءات الصُندوق هذه، حيث جرت عرقلة إقرار قانون "ضبط رؤوس الأموال" منذ سنتين حتى الأمس القريب، بفعل المُزايدات الإنتخابيّة تارة ولمصالح وغايات حزبيّة وشخصيّة تارة أخرى، الأمر الذي أفرغ هذا الإجراء من مضمونه، بحيث صار لزوم ما لا يلزم. ولا تزال الجهات المعنيّة تتهرّب أيضًا من توحيد سعر الصرف، بهدف الحد من خسائر كلّ من مصرف لبنان والمصارف والدولة في آن واحد، ولوّ على حساب مُعاملة المُواطنين والمُودعين بشكل غير عادل إطلاقًا، وهدر جزء كبير من أموالهم، وحتى تشليحهم جزءًا منها بقُوّة قرارات الأمر الواقع!.
ثالثًا: صُندوق النقد الدَولي طالب بإعادة هيكلة القطاع العام، وبمحاربة الفساد وبوقف الهدر، خاصة في مؤسّسة كهرباء لبنان، لكنّ هذا الأمر لا يعني إطلاقًا زيادة تعرفة الكهرباء عشوائيًا من دون تأمين الكهرباء للمواطنين، أي من دون وضع خُطة إنقاذ فعليّة لأحد أبرز أعمدة الهدر في لبنان، أي قطاع الكهرباء الذي لا يُعاني فقط من محدودية قيمة الفاتورة الكهربائيّة نسبة إلى الغلاء الحاصل، بل أيضًا من عدم القيام بالجباية بالشكل اللازم، وبحصرها في مناطق معيّنة دون أخرى، ناهيك عن إستثناء العديد من المخيّمات والمؤسّسات، والعجز عن مُكافحة ظاهرة سرقة التيّار الكهربائي، إلخ. ومطالب الصُندوق لا تعني إطلاقًا، وقف التوظيف بشكل عشوائي من دون إعادة تنظيم كل ملاكات ومؤسّسات الدَولة، لجهة وقف كل أنواع الفساد والهدر في القطاع الرسمي، ولجهة توجيه الفائض في الموظّفين في بعض الإدارات والوزارات إلى إدارات ووزارات تُعاني من نقص حاد في الكادر البشري!.
رابعًا: صندوق النقد الدَولي طالب بالمُوازنة بين مداخيل الدولة ومصاريفها، بهدف إعادة التوازن إلى ماليّتها، وطالب كذلك بتطوير سياسة فرض وتحصيل الضرائب والرسوم الجمركيّة وغيرها، لكنّه لم يُطالب برفع كل الأسعار عشوائيًا، وبمُضاعفة الرسوم والضرائب، من دون إطلاق خطة إصلاح إقتصادي ومالي شاملة. وما فعلته السُلطة التنفيذيّة، وما تُحضّر للقيام به في الأسابيع القليلة المقبلة، وبحلول مطلع العام المُقبل، هو المُضيّ في سياسة رفع الضرائب والرسوم، لكن من دون أي خطة لإخراج لبنان من حال الشلل الإستثماري، ومن دون أيّ خطة لوقف الخط الإنحداري السريع للإنهيار الشامل، ومن دون أيّ خطة لإعادة دوران العجلة الإقتصاديّة! وحتى اليوم، تنحصر "إنجازات" السُلطة في هذا السياق، بالوعود المؤجّلة موعد التنفيذ. وما جرى إقراره في المجلس النيابي أمس، بالنسبة إلى بطاقة التمويل وما يُسمّى شبكة الأمان، لا يُمثّل حلاً مُستدامًا، وهو مُرتبط بمُساعدات دَولية مَحدودة وقد لا تستمرّ طويلاً، علمًا أنّ الإستنسابية والمصالح الإنتخابيّة قد تفعل فعلها في تحديد المُستفيدين في نهاية المطاف، حتى مع المكننة في عمليّة التسجيل.
في الخُلاصة، إنّ ما يحصل في لبنان تحت شعار إرضاء صندوق النقد الدَولي، هو عبارة عن سرقة مُستمرّة للشعب اللبناني، لتحميله كل أوزار وخسائر فشل سياسات السُلطات المُتعاقبة منذ أكثر من ثلاثة عُقود، ولتدفيعه ثمن الصفقات والسمسرات وحتى السرقات التي حصلت. والأكيد أنّه في حال بقيت هذه السياسة مُستمرّة، من دون البدء جديًا بتطبيق خطة إنقاذ فعليّة لا كلاميّة، فإنّ مُطلق أيّ أموال ستصل من الصندوق إلى الخزينة اللبنانيّة، ستُهدر بسرعة البرق من دون أيّ فائدة على لبنان وعلى المواطن اللبناني، تمامًا كما هُدرت عشرات وحتى مئات مليارات الدولارات منذ نهاية الحرب حتى تاريخه!.