بعد أيام على "التسوية" السعودية الفرنسية حول لبنان، والاتصال غير المسبوق الذي أمّنته باريس بين ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ورئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي، لا يبدو أنّ "الترجمة" سلكت طريقها بعد، في غياب أيّ "مفاعيل عمليّة" بعد، لا على المستوى الدبلوماسيّ، كما هو مرجَّح، ولا حتّى في المنطق السياسيّ.
وقد لوحِظ أنّ الاتصال "الموعود" بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره اللبناني ميشال عون لم يحصل، حيث تولّت سفيرة فرنسا لدى بيروت "التعويض" عبر زيارة قصر بعبدا، وإطلاع بعبدا على مضمون ما جرى الاتفاق عليه، ما أشّر إلى وجود "مطبّات" وقع فيها الاتفاق ربما، الذي لم يرقَ لمستوى "المبادرة المتكاملة" بعد.
في غضون ذلك، تواصل الأزمات اللبنانية تفاقمها، فالحكومة لا تزال على حالها من "الشلل والتعطيل"، مع بروز معطى جديد يتعلق برفض الرئيس عون المضيّ بسياسة "المراسيم الجوالة"، منعًا لتكريسها "أمرًا واقعًا"، يجعل عدم التئام الحكومة "طبيعيًا"، خصوصًا بعدما عقدت جلسة الحكومة، و"غُيّبت" ما وُصِفت بالتسوية عنها.
وسط كلّ ذلك، ثمّة من يسأل عن موقف "حزب الله"، فهل من "ليونة" يبديها، حكوميًا على الأقلّ، بعدما ما وصلت الأزمات إلى ما وصلت إليه؟ وكيف قرأ أساسًا التسوية السعودية الفرنسية التي تمّت، والتي يُقال أصلاً إنّه من مهّد لها الطريق، بمنح الوزير جورج قرداحي "الضوء الأخضر" لتقديم استقالته بالدرجة الأولى، فكان ما كان؟!.
من هذه الزاوية، ينطلق العارفون بأدبيّات "حزب الله" ليقولوا إنّ الأخير أراد بموقفه من استقالة قرداحي، "تسليف" الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، كما رئيسي الجمهورية والحكومة، موقفًا أساسيًا، خصوصًا على وقع الحملات التي وصلت لحدّ اعتبار عدم استقالة قرداحي قبل جولة ماكرون الخليجية "لعبًا بالنار"، على أن يجني "ثماره" في الموضوع الحكوميّ، إلا أنّ النتيجة جاءت "مخيّبة للآمال" على كلّ المستويات، وفقًا لهؤلاء.
بمعنى آخر، يؤكد العارفون أنّ "حزب الله" لم يكن راضيًا، بالشكل والمضمون، عن "التسوية" السعودية الفرنسية التي تمّت، وهو شعر أنّ استقالة قرداحي كانت بالفعل "هدية مجانية" للخصوم، ولم تؤتِ أكلها، رغم كلّ المناخ السياسيّ الذي حاول الإيحاء بأنّ هذه الاستقالة "فعلت فِعلها"، وأنّ الاتصال الذي تمّ بين ولي العهد السعودي ورئيس الحكومة اللبنانية شكّل "خرقًا كبيرًا" يُبنى عليه، لا سيما أنّه مثّل أول "انفتاح" سعودي من نوعه على الحكومة.
ولعلّ ما يستند إليه أساسًا هؤلاء العارفون في فرضية "عدم الرضا" يتمثّل في البيان السعودي الفرنسي المشترك الذي صدر بعيد المحادثات التي جمعت بين الرئيس الفرنسي ووليّ العهد السعودي، والذي يرى المحسوبون على "حزب الله" أنّه كُتِب بأيادٍ سعوديّة، وهذا الأمر ليس خافيًا على أحد، لكونه تبنّى "قاموس الرياض" بحرفيّته، وقد "صادق" الفرنسيّون عليه، كما هو، من دون أيّ تعديل أو تغيير، أو حتى "تجميل" لا بدّ منه في هذه الحالات.
ويقول العارفون إنّ أكثر من "استفزّ" الحزب في بيان "التسوية" أنّه تضمّن ما يمكن اعتبارها "شروطًا تعجيزية" لدعم ومساعدة لبنان، لا تقف عند حدود الكلام العام عن دور لبنان في منع "الإرهاب"، مع ما لهذا المصطلح من "معايير مزدوجة" يختلف عليها الجميع، ولكنّها تصل عند الحديث الصريح عن "حصر السلاح" بيد المؤسسات اللبنانية الرسمية، وهو ملفّ إشكاليّ كبير، لا يمكن لأحد التكهّن بإمكان "حسمه" اليوم، وبهذه الطريقة.
وبعيدًا عن "تهليل" بعض القوى اللبنانية، ومن بينها رئاسة الحكومة، بـ"الخرق" الذي تحقّق، والذي لم يرَ فيه "حزب الله" أي جديد "نوعي" يمكن البناء عليه فعليًا، فإنّ الأكيد، أقلّه حتى الساعة، أنّ أيّ "مفاعيل" لم تظهر بعد على أرض الواقع، فلا الدول الخليجية تراجعت عن الإجراءات "التصعيدية" التي اتخذتها إزاء لبنان، ولو أنّ البعض يتوقع شيئًا من ذلك في الأيام المقبلة، ولا الحكومة عادت إلى "إنتاجيّتها".
هنا، يشير العارفون بـ"حزب الله" إلى أنّه لا يزال "ثابتًا" على موقفه، وهو سعى منذ اليوم الأول إلى إقناع الجميع بوجود "فصل" بين الأزمة الدبلوماسية بين لبنان ودول الخليج، وأزمة الحكومة التي بدأت أساسًا قبل "القطيعة"، وبالتالي فإنّ الإيحاء بحلّ الأولى لا يمكن أن يقود حكمًا وتلقائيًا إلى حلّ الثانية، من دون تأمين "مقوّمات" ذلك، وهي واضحة وثابتة في قاموس "الحزب"، وقوامها "تطبيق الدستور"، وفق ما يقول قياديّوه.
وإذا كان خصوم الحزب وحتى حلفاؤه في الحكومة ينطلقون من الدستور نفسه، ليؤكدوا على مبدأ "فصل السلطات"، ما يعني أنّ الحكومة "لا علاقة لها" بملف التحقيق في جريمة تفجير مرفأ بيروت، ولا قدرة لها على "عزل" قاضٍ وتنحيته، كما يريد "الثنائيّ"، فإنّ الحزب ينطلق من أنّ الدستور ينصّ في المقابل على أنّ ملاحقة السياسيين هي من صلاحية "المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء"، وهو ما لم يتمّ حتى الآن.
وبعدما كان "الرهان" على جلسة البرلمان الأخيرة لـ"تشريع" ما يريده الحزب، فقد بدا واضحًا أنّ "التسوية" التي وُضِعت على "النار" في الأيام الأخيرة لا تزال تصطدم بالعوائق والمطبّات، من بينها أن "التيار الوطني الحر" الذي قيل أنّه "تعهّد" بتأمين النصاب، يرفض التصويت إلى جانب "الثنائي"، الذي وجد أنّ "الأكثرية" المطلوبة ليحقّق هدفه قد لا تكون مؤمَّنة، لا ميثاقيًا بطبيعة الحال، ولكن حتّى عدديًا، وفق بعض التقديرات.
في الخلاصة، يبدو أنّ "حزب الله" غير راضٍ لا على مسار الأمور حكوميًا، ولا على التسوية السعودية الفرنسية. ربما لهذه الأسباب، بدأ البعض، من المقرّبين منه، التصويب على رئيس الحكومة، وحتى القول بأنّه لا يريد "جمع حكومته". لكن، وبعيدًا عن كلّ شيء، يبقى الثابت أنّ الأزمات تتفاقم، بعدما وصلت إلى "القاع" إن جاز التعبير، وأنّ السياسيّين رغم كلّ ذلك يتمسّكون بمنطق "المقايضة"، دونما أيّ اكتراث!.