البيانُ المشترَكُ السعوديُّ/الفرنسيُّ (إعلان جَدّة) بشأنِ لبنان هو بيانٌ لبنانيٌّ بامتياز. فقَبلَ أن تكونَ بنودُه "شروطًا" فرنسيّةً وسعوديّةً، هي مطالبُ اللبنانيّين وحاجاتُهم، لكنَّ الدولةَ اللبنانيّةَ، تحت ضغطِ حزبِ الله، أهملَتها وأدْخَلتنا في مسلسلِ أزَماتٍ وكوارث. "إعلانُ جَدّة" هو عمليًّا "إعلانُ بيروت"، ويَصُبُّ مباشرةً في حِيادِ لبنان والمؤتمرِ الدُوَليِّ الخاصِّ بلبنان. كيف؟
غالِبيّةُ بنودِه تُشكِّلُ المرتكزَ الأساسيَّ لحِيادِ لبنان. فحين نَصونُ "الوِحدةَ الوطنيّةَ والسلمَ الأهلي، ونَحصُرُ السلاحَ في مؤسّساتِ الدولةِ الشرعيّة، ونُطبِّقُ القراراتِ الدُوليّةَ 1559 (نزعُ السلاح) و1701 (تحييدُ الجنوب) و1680 (ترسيمُ الحدودِ مع سوريا)"، وحين لا يعودُ لبنان "مُنطلقًا لأعمالٍ إرهابيّةٍ تُزعزعُ أمنَ المنطقةِ واستقرارَها"، حينئذ يَدخُلُ لبنانُ نظامَ الحِيادِ من دون إعلانٍ رسميٍّ. إنّـما يبقى أن نحوِّلَ الحِيادَ من واقعٍ سياسيٍّ وأمنيٍّ إلى واقعٍ دُستوريٍّ يُعطيه صفةَ الثباتِ والديمومةِ من خلالِ رعايةٍ دُوَليّة.
ولأنَّ تنفيذَ "إعلانِ جَدّة" متعذِّرٌ من خلالِ حوارٍ بين القِوى اللبنانيّةِ، يُصبحَ اللجوءُ إلى مؤتمرٍ دُوَليٍّ خِيارًا مفتوحًا. الفِكرةُ بدأت تَشُقُّ طريقَها بهدوءٍ وثباتٍ. ومنذ أيّامٍ صَدرَت تصاريحُ فرنسيّةٌ رسميّةٌ تقترحُ رعايةً دوليّةً لحوارٍ لبنانيٍّ ما. ومنذُ الأشهرِ الأربعةِ الأخيرةِ والفكرةُ تُراودُ اللقاءاتِ الدوليّةَ والعربيّةَ حولَ لبنان. يَتهامَسون بها ويخافون عليها. والبيانُ الفرنسيُّ/السعوديُّ هو أصلًا خطوةٌ متقدِّمةٌ نحو المؤتمرِ الدُوَليِّ تلتقي والخطواتِ الفرنسيّةَ والأميركيّةَ والفاتيكانيّةَ المشترَكة. لكنَّ الخوفَ أن تُجهِضَها الدولةُ اللبنانيُّة كما أجَهضَت جميعَ المقترحاتِ الإصلاحيّةِ الماليّةِ والاقتصادية.
مصيرُ المؤتمرِ الدُوَليِّ سيَتوضَّحُ أكثرَ أثناءَ زيارةِ الأمينِ العامِّ للأممِ المتّحدةِ أنطونيو غوتيريس لبنان في 19 كانون الثاني 2022. وأساسًا، حين يُعلن المجتمعُ الدُوليُّ أنَّ الطبقةَ السياسيّةَ اللبنانيَّة، لاسيّما الحاكمةُ، فاسدةٌ وفاشلةٌ وعاجزةٌ عن استيلادٍ حلٍّ، لا يستطيعُ، استطرادًا، إلا أن يؤيّدَ مؤتمرًا دُوَليًّا لإنقاذِ لبنان وإرساءِ قواعدِ الحلِ الكبير. ولـمّا يُجمِعُ هذا المجتمعُ على أنَّ لبنانَ قيدَ الانهيارِ الشامل، لا يَقدِرُ، بالتالي، إلا أن يُبادرَ إلى إنقاذِه. ولقد أثبتَت التجاربُ التاريخيّةُ الماضيةُ أنَّ ما مِن تدخُّلٍ أجنبيٍّ حَصلَ قبل أنْ يبلغَ لبنانُ شفيرَ الهاوية. هكذا حَدَثَ سنواتِ 1958، 1976، 1978، و1982... وها نحن في الهاوية.
الراهنُ أنَّ عَقدَ مؤتمرٍ دُولَيٍّ يَضمَنُ وجودَ لبنان ويُحيي الأملَ بعودةِ الدولةِ اللبنانيّةِ بشكلٍ جديد؛ بينما مؤتمرٌ لبنانيٌّ من دون رعايةٍ أمميّةٍ لا يؤدّي، استنادًا إلى "السوابق"، إلى أيِّ اتفاقٍ دستوريٍّ أو سياسيٍّ أو أمنيّ. والراهنُ أيضًا أنَّ اعتمادَ الحيادِ اللبنانيِّ برعايةٍ دُوَليةٍ قد يُبقي التطوّرَ الدستوريَّ في إطارِ اللامركزيّةِ الموسَّعةِ، فلا يَفيضُ إلى الفِدراليّةِ، وقد أصبَحت على الأبواب، بينما رفضُ الحيادِ قد يَجرُفُنا إلى ما هو أبعد من الفِدراليّة. الخِيارُ بين أيْدينا والقرار.
هكذا "إعلان جَدّة" لا يُنقِذُ لبنانَ من أزْمتِه الحاليّةِ فقط، بل من سائرِ أزَماتِه البُنيويّة. لكنْ، بقدْرِ ما أنا متفائلٌ بالموقِفين السعوديِّ والفرنسيِّ أظَلُّ متشائمًا من الموقفِ اللبنانيّ: منذُ سنةِ 2010 والمنظومةُ الحاكِمةُ احتَجَبت، بسببِ ڤيتو حزبِ الله، عن تضمينِ البياناتِ الوزاريّةِ للحكوماتِ القرارين الدُوَليّين 1559 و1680 واكتَفت بالقرارِ 1701. ومنذُ سنةِ 1943 والقِوى اللبنانيّةُ تتبادلُ سياسةَ الانحيازِ وتَبتعدُ عن مبدأِ الحِيادِ، فجاوَرْنا القَعْر.
ماذا يَبقى من لبنان إذا أوْقَفنا المطالبةَ بالحِيادِ والمؤتمرِ الدُوَليِّ، ورُحنا جميعًا نُناصِرُ الدولَ الأجنبيّةَ، ونَشتركُ في صِراعاتِها وحروبِها؟ ماذا يَبقى من لبنان إذا صار فِدراليّةَ دولٍ أجنبيّةٍ لا فدراليّةً لبنانيّةً، لكلِّ دولةٍ كانتونٌ وطائفةٌ ومذهبٌ وسلاح؟ ماذا يَبقى من لبنان إذا تَحوّلت شواطئُنا وقِممُنا قواعدَ عسكريّةً أجنبيّة؟ أهذا هو لبنانُ الذي يُفضِّله الّذين يُحاربون الحِيادَ والمؤتمرَ الدُوَلي؟ أَيؤثِرُ هؤلاءِ أن يَسيرَ لبنان على خُطى تشيكوسلوڤاكيا ويوغسلاڤيا ومقدونيا؟ أيُحبِّذُ هؤلاءِ تفكيكَ الجُمهوريةِ وإنشاءَ جمهوريّاتٍ جديدة؟ قديمًا كان أقصى الانحيازِ إلى مشاعرَ قوميّةٍ كالفكرةِ العربيّةِ والقضيّةِ الفلسطينيّةِ. أما اليوم، فالانحيازُ صار إلى مشاريعَ لا مبرِّرَ قوميًّا لها ولا علاقةَ لها بلبنانَ أو بالعروبةِ أو بالحقِّ الفِلسطينيّ السليب. يَنحازون تحت شعاراتِ الأقليّاتِ والأكثريّاتِ والهِلالات، فيما نحن أكثريّةٌ إذا اتّحدْنا وأقليّةٌ إذا انقَسَمنا وقمرًا إذا اجتَمعنا.
ما دامت أبوابُ الحواِر الجِدّيِّ موصَدةً، مواجهةُ هذا الواقعِ سياسيًّا واجبٌ وطنيٌّ. ونتائجُ المواجهةِ تبقى أفضلَ من السكوتِ عن قوى التعطيلِ وتركِها تَتقدّمُ بخُطى ثابتةٍ للإطباقِ النهائيِّ على لبنان. إنَّ إنقاذَ وجودِنا الحرِّ هو الأولويّة، وفي سبيلِه لن نتوانى عن الصمودِ الذاتيِّ والاستعانةِ ـــ إذا لَزِمَ الأمرُ ـــ بقُدراتِ دولٍ أجنبيّةٍ صديقةٍ وحضاريّةٍ للحِفاظِ على كيانِ لبنان ومنعِ العبَثِ بمصيرِه. ولنا في القراراتِ الدُوَليّةِ من 1559 إلى 1701 قاعدةٌ شرعيٌّة ومتينةٌ لوضعِ لبنانَ تحتَ عنايةٍ دُوَليّةٍ قويّةٍ لحين مرورِ العاصفةِ وتثبيتِ كيانِ لبنانَ ودولتِه مجدَّدًا.
معطياتٌ كثيرةٌ تَشي بأنّنا عشيّةَ مرحلةٍ جديدةٍ قد تزيدُ الانهيارَ إذا تابَعت الدولةُ أداءَها الشاذ، أو تُنقِذُ لبنان إذا ارْتدَّت نحو الخطِّ الوطنيِّ التاريخيّ. عمليةُ الإنقاذِ الدوليّةِ تَرتكز على خمسةِ أعْمدةٍ: إصلاحٌ، ومساعداتٌ، وإعادةُ النظرِ في دورِ حزبِ الله وسلاحِه، فحيادٌ، فتعديلاتٌ دستوريّةُ. ليست هي المرّةَ الأولى التي نَتوسَّمُ خيرًا في المبادراتِ ثم نُصْدَمُ بتراجُعِها أو سقوطِها. لكن الجديدَ هذه المرّةَ أنَّ محاولةَ الإنقاذِ العربيّةِ/الدُوليّةِ للبنان، تترافق مع مرحلٍة جديدةٍ في الشرق الأوسط تَرتكز على ثلاثةِ عناوين: إنهاءُ بقايا الحروبِ والثوراتِ العربيّة، حسمُ الـمِلَفِّ النوويِّ الإيرانيّ، وتحقيقُ السلامِ الشاملِ مع دولةِ إسرائيل.
إِنَّ المخاضَ القائمَ من ڤيينا وإيران وأفغانستان مرورًا بالخليجِ والمشرقِ والمغرب وصولًا إلى لبنان، لا بدَّ أن يَلِدَ شرقًا ما ولبنانًا ما. لكنَّ المجهولَ، حتى لدى مراكزِ القرار، هو مدى القدرةِ على إرساءِ السلمِ من دونِ اللجوءِ إلى عملٍ عسكريٍّ إضافيٍّ، ومدى القدرةِ على اللجوءِ إلى عملٍ عسكريٍّ من دون التورّطِ في حربٍ مفتوحة. أما المعلوم، فهو استحالةُ إنقاذِ لبنان بوجودِ المنظومةِ الحاكِمة.
وَسْط هذه المبادراتِ الملتَبِسةِ والمكثّفةِ والمحفوفةِ بالأخطار، يَجدُر قيامُ مجموعةٍ نُخبويّةٍ سياديّةٍ وطنيّة، تُقدِّمُ للمجتمعِ الدُوَليِّ مشروعًا لبنانيًّا واضحًا، وتَتحاشى التنازلَ عن الثوابتِ في أيِّ مفاوضاتٍ ذاتِ طابِعٍ مصيريّ. تَنازَلنا كفاية. لسنا في صَدَدِ تكوينِ لائحةٍ انتخابيّةٍ، بل في طَورِ إعادةِ تكوينِ دولةٍ للأجيالِ الجديدة.