ونحن نقترب من الذكرى الواحدة والثلاثين لفاجعة لوكربي، حين استيقظ العالم في 22 كانون الأول على انفجار طائرة بوينغ 747 رحلة رقم 103 في سماء المدينة الاسكوتلندية حيث قضى مئتان وسبعون شخصاً نتيجةً للحادث، ونحن نقترب من هذه الذكرى الأليمة تلحّ على ذاكرتي تبادل الروايات المتناقضة حول أوكرانيا وإقليم دونباس، والتشويش الإعلامي اللامسؤول الذي يزيد من وتيرة تسخين جبهة الحرب بين الشرق والغرب في هذا الإقليم الجميل. والسبب أنّ ذكرى لوكربي حاضرة في ذهني كلّما قرأت خبراً عن أوكرانيا هو تعدّد التفسيرات والتكهّنات التي سادت الساحة الإعلامية العالمية بعد الحادث، وما ترتّب على هذه التكهّنات من عقوبات وإجراءات على بلدان دون التأكّد من صحة المعلومة أو وثوقيتها.
أتذكّر أنّه وبعد عشر سنوات من حادث لوكربي طلب السفير البريطاني موعداً عاجلاً من وزير الخارجية آنذاك، الأستاذ فاروق الشرع، وقدِم لرؤيته مساءً وكنت أنا كاتبة المحضر
للجلسة التي لم يحضرها سوى الوزير والسفير وأنا. وبدأ السفير بالقول بأنّ المخابرات البريطانية توصّلت إلى معلومات لا يرقى إليها الشكّ أبدأ بأنّ أشخاصاً سوريين كانوا ضالعين في إحضار القنبلة والتواطؤ مع جهات أخرى لإيصالها إلى الطائرة المنكوبة، وحين حاول الوزير أن يحصل منه على أسماء أو معلومات موثّقة، أجاب بأنّ المعلومات مازالت سرّية ولا يمكن الكشف عنها في هذه المرحلة المبكّرة، ولكنّ سلطات بلاده أرادت أن تأخذ السلطات السورية علماً بذلك. وبعد عقد من الزمن من ذلك الاجتماع الذي لم يلِه أيّ معلومات أو أسماء أو شروحات لما تمّ وصفه في تلك الأمسية بالخطير والهامّ، بعد عشر سنوات تابعنا جميعاً الاتهامات التي تمّ توجيهها إلى ليبيا في حادث لوكربي، والمبالغ الطائلة التي دفعتها ليبيا كتعويضات، والتي في النهاية لم تشفع لها، قصف الناتو لها في عام 2011 لاستحداث الديمقراطية التي يريدون ويرتأون، وما هي إلا المرادف الأكيد لتدمير البلدان وتفتيتها ونهب ثرواتها.
السّجال الآخر المشابه لحادثة لوكربي هو سجال الهجوم الإرهابي على برجي التجارة العالميين في نيويورك عام 2001 وإلى حدّ اليوم وبعد عشرين عاماً لم تفصح أيّ جهة عن نتائج التحقيقات، بل وُضعت النتائج تحت الشمع الأحمر في الأمم المتحدة، ولا يسمح لأحد بالكشف عنها إلّا بعد ستين عاماً. ما يجمع بين هذين الحدثين وما نعيشه اليوم من سجالات حول أوكرانيا ودونباس هو تحويل الظنّ إلى يقين، والبناء عليه في الإعلام وكأنه أصبح حقيقة واقعة، واتخاذ إجراءات عقابية وعسكرية بناءً على هذه الظنون دون أن يدقّق أحد بصحة المعلومة ومصدرها ومدى وثوقيتها تماماً كماحدث أيضاً قبل الحرب على العراق، حيث أثار الغرب زوبعة إعلامية وسياسية من الشكوك حول امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، ويوماً بعد يوم حوّل هذه الشكوك في أذهان المتابعين والقرّاء إلى واقع صلب واتخذ إجراءات عسكرية، واحتلّ بلداً وسبّب دماره دون أن يرفع أحد الصوت في وجه ما يجري.
إذا انتقلنا إلى أوكرانيا وحلّلنا أيّاً من المقالات الغربية التي تصدر عن الصحف أو محطات التلفزة الغربية عمّا يجري على الحدود بين روسيا وأوكرانيا، وعمّا يجري داخل أوكرانيا، نجد أنّ أيّ مدقّق لغويّ يكتشف أنّ كلّ الزوبعة مبنية على تكهّنات وتوقّعات ومخاوف لا يوجد ما يثبتها أو يثبت جزءاً من صحتها على أرض الواقع. ولنأخذ على سبيل المثال لا الحصر مقالاً نشرته رويترز وأخذته البي بي سي بعنوان "روسيا أوكرانيا: بوتين يقارن مكان الحرب في دونباس للتطهير العرقي" حيث يقول كاتب المقال: "هناك مخاوف بأنّ روسيا تنوي غزو أوكرانيا بينما تنفي روسيا ذلك". لاحظوا "مخاوف" من نيّة، ومن ثمّ، وبناء على مخاوف من نوايا، فإنّ واشنطن وحلفاءها حذّروا الكرملين من عقوبات قاسية إذا ما هاجمت روسيا جارتها مرة ثانية. أي تثبيت أنّ روسيا هاجمت من قبل وأنّ العقوبات الشديدة قادمة بناءً على "مخاوف" من "نوايا". بينما قالت السلطات الأوكرانية إنّ موسكو يمكن أن تكون بصدد خطط
لهجوم عسكري في نهاية كانون الثاني مع أنّ السلطات الأمريكية تقول ليس واضحاً بعد ما إذا كان الرئيس بوتين قد اتخذ قراراً !!!
ومن العناوين الرئيسية في المقال: "ما هو الخطر إذا ما غزت روسيا أوكرانيا؟ هل تحضّر روسيا لغزو أوكرانيا". العنوان في بي بي سي: "إذا غزت روسيا أوكرانيا يجب ألّا تعتمد على أنّ الولايات المتحدة ستجيب بالطريقة ذاتها. وبعدها بايدن يحذّر بوتين من غزو أوكرانيا، ويتحدّث على الهاتف لمدة ساعة ونصف مع رئيس أوكرانيا، ويتحدث مع قادة دول الناتو المجاورين لأوكرانيا. كما قال البيت الأبيض أنّه سيستمرّ في الدعم العسكري لأوكرانيا وتصعيد الدبلوماسية مع الكرملين. مع كلّ هذا التصعيد والوعيد من قبل الغرب، فإنّ روسيا تطالب ومنذ سنوات بتنفيذ اتفاق دونباس الموقّع منذ عام 2014، والذي يرفض الغرب تنفيذه كما تريد روسيا، وكما دعت إلى ذلك مرات عديدة على لسان مسؤوليها. كما أن بوتين دعا إلى توقيع اتفاق يضمن أمن الحدود مؤكداً أنه لا يريد أن تصبح أوكرانيا دولة ناتو على
حدوده. أي أن الموقف الروسي واضح ومحق بينما تعتري الموقف الغربي الشكوك والتأويلات والتفسيرات الذاتية.
تقول روسيا إنّ أوكرانيا هي الخليفة الاستراتيجية والروحية لها، وتريد تطمينات من الغرب أنّ أوكرانيا لن تنضمّ إلى الناتو أبداً، أو أن تسمح بنصب صواريخ قصيرة المدى على أراضيها، وهذا طلب معقول لدولة جارة كانت أوكرانيا جزءاً منها حتى وقت قريب، وتريد ضمان سلامة أراضيها، وألا تصبح أوكرانيا مصدراً للعدوان على روسيا. وهذا الطلب يمكن تلبيته من خلال اتفاقات بين الولايات المتحدة وروسيا لو صدقت النوايا، ولكن الغرب يريد في العمق أنتزاع أوكرانيا، وضمّها إلى أجندته بحيث تصبح مصدراً لتهديد روسيا.
ومن أجل تحقيق هذا الهدف نلاحظ التلاعب اللغوي بالحديث عن النوايا والظنون والشبهات والاعتقادات التي تعتبر مستفزّة وتروّج للتوتّر وتخلق غمامة من الضباب حول الأخبار، بحيث لا يميّز المرء بين الأكاذيب والواقع، ولا يعلمون مالذي يجب أن يصدّقوه أو يكذّبوه.
تماماً كما حدث أيضاً بعد أحداث الحادي عشر من أيلول بحيث أصبحت الشبهة التي يخترعها أيّ شخص لمسلم أو مسافر يتكلّم العربية جريمة بحدّ ذاتها، وأصبحت عبارات مثل "يشتبه به، او يُظنّ أو يُعتقد" وكأنها برهان ملموس تخوّل السلطات المعنية لاعتقال الشخص مصدر الشبهة.
في كلّ حرب نلحظ الدور الكبير للإعلام، وخاصة في صياغة الأخبار بطريقة تخدم أصحاب النوايا المبيّتة وراء هذا الخبر، وبما أنّ معظم وكالات الأنباء الغربية ملك لمن يسمّون أنفسهم بالديمقراطيات الغربية، فإنّ دور العالم هو تلقّي الأخبار المصاغة من وجهة نظر الغرب والتفكير والتحليل على أساسها، دون وجود مرجعية أخرى بذات الانتشار والقدرة تقارع الظنون والشبهات بأخبار موثوقة من الواقع وتحليلات ذات مصداقية ورؤى هدفها إطلاع العالم على ما يجري وليس تضليله من أجل إحراز نقاط لفريق معين ضدّ الفريق الآخر، بغضّ النظر عن الواقع وحقيقة المشهد على الأرض.
ما أحوج عالم اليوم وبعد كل هذه الكوارث إلى مرجعية إعلامية واقعية وذات مصداقية تنتزع من الإعلام الغربي رواياته وسردياته في الترويج للحروب والتي أثبتت مرة تلو الأخرى انها لا تمتّ إلى الواقع بصله ولكنها استخدمت كذرائع لتنفيذ اجندات تستهدف بلداناً بعينها لصالح هيمنة ومراكمة ثروات الغرب على حساب الشعوب والبلدان.